الاستيطان هو الجوهر الأعمق للأيديولوجيا الصهيونية، وهو كان وما زال الأداة الأهم في قيام المشروع الصهيوني على أرض فلسطين منذ أكثر من قرن وربع القرن، وهو الهدف والوسيلة في آنٍ معاً، وهو معيار النجاح في تحقيق هذا المشروع، هكذا كان، وما زال حتى الآن.
الاستيطان هو الممهّد المادي التاريخي لقيام «الدولة»، وهو الذي عزّز وجودها، وهو الذي «أمّن» لها الموارد البشرية للمشروع الصهيوني، في مراحل النشأة والتكوين، كما تحوّل إلى قوة اقتصادية كبيرة، وإلى جيش مسلّح رديف لجيش الاحتلال في مراحل التوسّع والعدوانية.
الاستيطان هو السلاح البشري لسرقة الأرض والاستيلاء عليها، وهو أداة خلق «الوقائع» وفرضها مدعوماً ومسنوداً من جيش قوي، ومن منظومات سياسية واجتماعية وثقافية ودينية متكاملة في دور الدعم والإسناد.
المستوطن عند الغالبية الكبيرة من المجتمع الإسرائيلي هو «الطلائعيّ»، و»الرائد»، و»المفتدي»، والاستيطان هو الملاذ «الآمن» للتطرف، وهو البيئة الحاضنة الأخصب للعنف والعنصرية.
وهو إضافة وعلاوة على ذلك البقرة المقدّسة عند غالبية الإسرائيليين.
وتحول المستوطنون إلى حالة تجذب تعاطف المجتمع الإسرائيلي، وهم القاسم المشترك الأعظم، وهم في موضع الإكبار والإجلال من المؤسسة السياسية والدينية، وهم في موقع المهابة من المؤسسة العسكرية والأمنية، ومن قطاعات شعبية واسعة.
كما نعرف جميعاً فإن الاستيطان الذي أسهم بصورة جوهرية في قيام «الدولة» يختلف عن الاستيطان الذي تحوّل إلى هدف ووسيلة للعدوانية والتوسع، وللتطرف والعنصرية بعد احتلال إسرائيل لباقي فلسطين في حرب حزيران 1967، وكذلك احتلال إسرائيل للصحراء المصرية في سيناء وهضبة الجولان السورية.
الاختلاف هنا ليس بالجوهر أو المحتوى، ولا هو من حيث الأهداف والوسائل، ولا حتى بكل الأبعاد السياسية أو الأيديولوجية، وإنما في موقع هذا الاستيطان في القانون الدولي، وموقف أغلبية دول العالم ومنظماته، وحتى مجتمعاته من هذا الاستيطان.
قد يقول قائل: وما هي قيمة مواقف القانون الدولي طالما أن بوسع إسرائيل أن تواصل هذا الاستيطان، وبوسعها إدارة ظهرها كلياً لهذا القانون الدولي ومنظماته، بل وأن تدير ظهرها للعالم ومنظماته ومجتمعاته، وبوسعها تكريس هذا الاستيطان، وتحويله إلى أمرٍ واقعٍ مفروض على الأرض، يصعب تجاهله، إن لم نقل بات من المستحيل تجاوزه والقفز عنه؟
هذه الأسئلة تبدو صحيحة أولاً، و»مشروعة» و»منطقية» ثانياً، وهي أسئلة «واقعية»، وليست نظرية أو جدالية ثالثاً، على ما يبدو للوهلة الأولى.
ومع كل ذلك فهناك ما يكفي من الحقائق المقابلة، وهناك ما يمكن أن يُقال حول الورطة الإسرائيلية، وحول «الخطر» الذي يمثله الاستيطان على المشروع والدولة والوجود الصهيوني على الأرض الفلسطينية، وعلى كل الأرض الفلسطينية، وليس فقط على الجزء الخاضع منها للاحتلال العسكري المباشر.
إذا افترضنا أن الأمر هنا يحتاج ويتطلّب محاججة علمية ومنطقية متماسكة ـ وهو افتراض ضروريّ ـ فإن علم الحساب لا يسعفنا في محاججة كهذه، وسنكون بحاجة ماسّة، إلى علم الجَبْر، وذلك لأن علم السياسة هو أقرب إلى علم الجَبْر منه إلى علم الحساب، حتى وإن تم التغافل عن هذا التعريف في الحقل الأكاديمي. دعونا الآن نبدأ ببعض الافتراضات قبل الحديث عن فرضيات.
لو كان الاستيطان مجرّد حالة لصيقة بالمجتمع الإسرائيلي، أو أنها حالة مؤقتة، أو عابرة، هامشية أو جانبية لأمكن عند درجة معينة من صعوبة استمرارها، أو عند درجة أخرى من محاصرة أو اختناق شروطها المحفّزة، الفكرية والسياسية والاقتصادية، أو عند درجة ثالثة من كلفتها الأخلاقية والثقافية.. لأمكن التراجع عنها، أو لأمكن «التضحية» بها، والاستغناء عنها، خصوصاً إذا ما تحوّل الإصرار عليها، والتمسك بها إلى تهديد «للدولة» والمشروع والوجود المستقبلي، أو أصبح الاستيطان سبباً مباشراً يهدد وحدة المجتمع الإسرائيلي في الظروف الإسرائيلية «الخاصة» والخاصة للغاية للحالة الإسرائيلية.
لو كان الأمر كذلك، أي لو كان الاستيطان في فلسطين، كل فلسطين مجرد حالة عابرة أو ثانوية، أو مجرد تعبير عن قطاع اجتماعي أو سياسي معين، في مرحلةٍ أو أخرى لأمكن الحديث عن خطر، وعن ورطة ما، أو مأزق قابل للتجاوز والحلّ.
أما وأن الاستيطان كما هو عليه في الواقع، وكما هو سياق تاريخي متصل ومتواصل، وكما هو جوهري وصميمي في الفكر والممارسة السياسية، وكما هو حالة «إجماع» قومي، وتأييد شعبي واسع وجارف، وبما هو عليه من تأثير في التوازنات السياسية، وما بلغه من درجات التوغل في المنظومات السياسية والاجتماعية والمؤسسات العسكرية والأمنية والإعلامية، وما بات يحظى به من دعم بموارد المؤسسات، وما يربطه بموارد الدعم الخارجي من المنظمات الصهيونية الخارجية، وما يلقاه من دعمٍ وإسنادٍ من مؤسسات رسمية عليا في الولايات المتحدة وبعض البلدان الغربية، وما يقدم له من تسهيلات إسرائيلية رسمية ومؤسسات عربية.. أما وأن الاستيطان قد بات على هذه الأهمية، وبلغ دوره ما بلغ حتى يومنا هذا، وأصبح غلاة المستوطنين في قمة الهرم السياسي في إسرائيل، وأصبح المستوطنون يُعَدُّون بمئات آلاف المسلّحين والمنظّمين، والذين لهم مرجعياتهم الدينية «المستقلة» عن المرجعيات الرسمية، وتحوّلت اليهودية الدينية إلى نمطٍ من الفاشية الدينية، وتحوّل الاستيطان ليس فقط إلى مجرّد قاسمٍ سياسي مشتركٍ أعظم، وإنما إلى قاسمٍ «مقدّس» أعظم عند غالبية المجتمع الإسرائيلي، فإن الورطة هنا، والمأزق هنا، والخطر هنا قد تحول في الواقع إلى خطر وجودي عند درجة معينة، وإلى مأزقٍ تاريخي، وإلى ورطةٍ وجوديةٍ في أي مرحلة صعبة قد تمرّ على المشروع الصهيوني مستقبلاً.
أين هي القوى الإسرائيلية التي تمتلك القناعة والشجاعة لتقف في مواجهة الاستيطان والمستوطنين؟، إذا كانت الخارطة السياسية في إسرائيل بأكثر من 75% منها، إمّا منخرطة بالكامل، ومن دون تحفّظ بالمشاريع الاستيطانية، وتعمل ليل نهار لكسب ودّ وتعاطف المستوطنين، وتلبّي رغباتهم، أو هي متورّطة بهم، وليس لديها أي استعداد حتى للحدّ من اندفاعهم وتهوّرهم وتحابي كل عربداتهم وتتستّر عليها.
وحتى لو وُجدت مثل هذه القوى من يومٍ ما، أو حتى لو بلغت الضغوط على إسرائيل في ظل ظروف دولية وإقليمية قادمة الدرجة التي تتطلب مواجهة الاستيطان والتصدي أو ردع المستوطنين أفلا يعني ذلك بصورة حتمية ومؤكّدة الدخول الإجباري في حربٍ أهليّة داخلية؟
وماذا سيحلّ حينها بالمؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية؟
من سيتمكّن من فرض «القانون»، وهل يُمكن إجبار مليون مستوطن ـ على سبيل المثال ـ على الجلاء عن الضفة؟
ألن يتحوّل الاستيطان في هذه الحالة إلى «القلعة» التي يتمترس خلفها، ويدافع عنها مئات آلاف المسلّحين والمدجّجين، إضافةً إلى السلاح بالأفكار العنصرية والتوسعية والأساطير الدينية التي «تبيح» لهم ارتكاب المجازر، وخصوصاً ضد الشعب الفلسطيني، لخلط الأوراق، وحرف مسار واتجاه الأحداث نحو الطرد الجماعي دون رادعٍ أو حسابات من أي نوعٍ كان؟
وأين هو العالم الذي سيبقى يدافع عن إسرائيل في هذه الحالة، وعن واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط؟
ألن يتحوّل النظام السياسي في إسرائيل في هذه الحالة إلى نظامٍ للفصل العنصري السافر الذي لا يمكن قبوله أو مهادنته من قبل الغالبية الساحقة من البشرية وشعوب وأمم العالم كله.
لتفادي مثل هذا الاحتمال تعتقد «العبقرية» الإسرائيلية أن الحلّ الأمثل هو بإغراق الضفة بالمزيد من الاستيطان، لكي يصل عدد المستوطنين فيها إلى مليون أو مليون ونصف المليون مستوطن في العقد القادم، بحيث يتحول الصراع فيها إلى صراعٍ سيتم تصويره وكأنه صراع أهلي بين مدنيين إسرائيليين ومدنيين فلسطينيين، ويقوم الجيش بمهمّة فضّ النزاع بينهم . أي تتحوّل المسألة من الطابع الاحتلالي، إلى نزاعات محلية بين «السكان» المدنيين.
الواقع أن هذا لن يغيّر شيئاً في معادلة ما يمثله الاستيطان من ورطة وجودية على إسرائيل، لأن وعاء العنصرية والفصل العنصري، والعدوانية والتوسعية سيظل هو الاستيطان، وهو نفس الوعاء الذي يعدّ للنقب والجليل والمثلّث، فالخلطة واحدة والبرنامج واحد والورطة هي نفس الورطة.