جاء في رواية «البنسات الثلاثة» للأديب الألماني برتولد بريخت، أن رتق أو ترقيع ثوب بالٍ غير مُجدٍ، فإذا ما رتق في جزء سرعان ما يفلت في أجزاء أخرى لأن الاهتراء أصاب الثوب كله، والحل ليس بالرتق والترقيع الذي لا يصمد طويلاً وإنما بتوفير قطعة قماش جديدة وتفصيل ثوب جديد. من يتابع مجريات الصراع الحالي في فلسطين سيجد همروجة من المساعي الإقليمية الإسرائيلية لرتق الثوب البالي، او بالبحث عن تسكين آني للصراع قد يستمر لأسابيع او أشهر وقد لا يستمر إذا ما قلب الأصوليون اليهود الطاولة.
في هذا السياق منعت سلطات الاحتلال دخول- قرابين الذبح- من قبل منظمات الهيكل الأصولية المتطرفة الى باحة المسجد الأقصى، متفادية بذلك انفجارا يشارك فيه قطاع غزة، وباعت هذا الإجراء للاقليم الذي تولت ماكيناته بمنع دخول سلاح القطاع على الخط، وتأجل اجتماع القيادة في رام الله الذي كان سيعود الى قرارات تجميد الاعتراف والتنسيق الأمني مع دولة الاحتلال، بعد حالة التهميش التي وصلت إليه. وتواصل دولة الاحتلال عمليات المداهمة والاعتقال في جنين، وتراجعت عن عملية كبيرة - سور واقٍ ثانية- وباعت تراجعها في أكثر من سوق محلي وإقليمي. وفي مناطق 48، عزلت مرتكبي الهجمات عن السواد الأعظم من المواطنين، وحاولت افتعال معركة مع عضو الكنيست أيمن عودة بعد أن أغاظتها دعوته كل العناصر العربية في جيش وحرس حدود الاحتلال الى الامتناع عن قمع المواطنين في القدس والضفة. ما أرادته سلطات الاحتلال في هذه الجولة عدم الربط والتشبيك بين 48 والضفة والقطاع والقدس، والاستمرار في عزلها السياسي والنضالي والديمغرافي عن بعضها البعض. وشراء هدوء آني او رتق الثوب البالي وترقيعه الى حين.
يقول الكاتب جونثان كوك في صحيفة «ميدل ايست أي/ الحوار المتمدن»، في معرض مقارنته الأزمة الأوكرانية بالأزمة الإسرائيلية.»تعتبر إسرائيل جميع الفلسطينيين الخاضعين لحكمها طابوراً خامساً محتملاً يعملون على تدمير إسرائيل الكبرى، ما أدى إلى تحول إسرائيل الى حصن إثني شديد التسليح ملتزم بقمع أي فلسطيني داخل فلسطين، وصولا الى الهدف النهائي وهو طردهم. ويضيف، إن ما فعلته إسرائيل بالفلسطينيين هو فصل عنصري، ما دفع العديد من منظمات حقوق الإنسان ومنظمات قانونية الى وسمها بالعنصرية، بينما يشعر كثيرون حول العالم بالأسف الشديد للمعاملة التي يتلقاها الفلسطينيون على يد إسرائيل».
من وجهة نظر المؤسسة الإسرائيلية فإن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي غير قابل للحل العدمي الذي ترغب فيه راهناً، وهذا يعني أن الحرب مفتوحة، حرب تضع شعباً بأكمله بين خياري الاستسلام والخضوع التام أو الترحيل في نهاية المطاف، او كما قال قائد لواء ما يسمى بالسامرة العقيد روعي تسيفيك قبل أيام أثناء إشرافه على ترميم « قبر يوسف» على مدخل مدينة نابلس : « ليس كسراقين في الليل، بل كأبناء ملوك نحن نأتي، وهكذا ننال حق أن نعيد شرف البلاد وشرف إسرائيل «. وفي غياب الحل السياسي مع الشعب الفلسطيني يتم إبرام اتفاقات «سلام» مع دول عربية تستخدمها إسرائيل لتعميق الدولة الاستعمارية العنصرية في الأراضي الفلسطينية، ولا يخلو من مغزى مشاركة طائرات الإمارات العربية المتحدة في الاحتفال بعيد «استقلال» إسرائيل، الذي هو يوم النكبة الفلسطينية في العام 1948.
المشكلة تكمن في إخفاء الاستراتيجية الإسرائيلية التي تتلخص بإزالة كل المشاريع السياسية لحل الصراع الفلسطيني/ الإسرائيلي عن الاجندة العربية والدولية، التي لم تعد تتسع الا لمهمات تبريد الصراع والحيلولة دون انفجار شامل. ولا شك في أن القبول او السكوت الفلسطيني على التجزيء والرتق والترقيع هو الأخطر. منذ عشرين عاما يحاول المستعمرون تقاسم منطقة المسجد الأقصى زمانياً ومكانياً ربما على طريق حسم السيطرة في نهاية المطاف، وفي كل محاولة تندلع معركة جماهيرية قابلة للاتساع في الداخل والخارج، وفي كل مرة يقول المستعمرون انهم ملتزمون بالوضع القائم، لكنهم في الواقع يكسرون حلقة من السلسلة الطويلة ويراكمون عليها في المرات اللاحقة ضمن صيرورة الاستحواذ على المكان. هذا ما حدث في تجربة البؤر الاستيطانية التي اعتبرها المستعمرون قانونية ووعدت حكومات إسرائيلية بتفكيكها لكنها تحولت تدريجيا الى مستعمرات. هذا النوع من قواعد الصراع ما زال قائما ويفعل فعله.
ما يحتاجه الوضع الفلسطيني هو حسم قضايا تعتبر بديهية لدى شعب يريد الخلاص من الاحتلال وهي: أولاً: ربط قضايا القدس والقطاع والضفة ببعضها البعض مع إسناد متبادل من الحركة السياسية في مناطق الـ 48، ومن الشعب في الخارج. الربط سياسياً وجماهيرياً ولا يعني تورط قطاع غزة في مواجهة غير متكافئة ومدمرة للقطاع. ثانياً: استيعاب الطاقة النضالية للأجيال التي انفصلت أو في طريقها للانفصال عن الحركة السياسية، من خلال وضع أهداف وخطط وبرامج وأشكال نضال في مواجهة الحصار والاستيطان والتهويد والفصل العنصري والخنق الاقتصادي والقمع. وتجاوز الاستقطاب والفعل العفوي ورد الفعل والأجندات الخارجية والتدخلات بأثمان وبغير أثمان.
ثالثاً: إن انعدام الثقة والتفكك والارتجال السياسي وطغيان الطاقة السلبية كل هذا وغيره نبع من واقع المؤسسة المأزوم القائم على التفرد والخصخصة والفئوية واحتكار السيطرة. فلا يمكن استعادة الثقة وبناء الطاقة الإيجابية والانخراط الجمعي في التصدي للاحتلال والاضطلاع بعملية البناء بدون قواعد سلوك أخلاقية ونظامية ومنظومة معايير وقيم، بدون العودة للشعب عبر الانتخابات بهدف إشراكه وليس استخدامه، لا يمكن استعادة الثقة بدون مؤسسات خاضعة للمساءلة والمحاسبة بالقانون، وبدون حماية القانون. ولا يمكن استقطاب الأصدقاء والحلفاء والأشقاء لدعم الحقوق المشروعة بدون مؤسسات موثوقة.
رابعاً: أصبح للمال السياسي ثمن باهظ الكلفة، وبخاصة لجهة تأثيره على القرار السياسي، وما نشهده الآن من ارتهان للتدخلات هو أكبر دليل على خطورة المال السياسي. نشهد استخداماً فظاً للعمل، وللمساعدات العينية، ولأموال الضرائب، وحرية الحركة، وللحضور السياسي او للتهميش السياسي. المساعدات بحاجة الى إعادة نظر بعد أن رجحت كفة استخدامها السلبي في مواجهة الحقوق المشروعة. من خلال تلك المداخل نستطيع إعادة بناء وحدة وطنية تزيل الحواجز السياسية بين أبناء الشعب وتضع حداً للانقسام، وحدة من اسفل إلى أعلى.