لم ينته الأمر بعد فيما يمكن وصفها بأمّ المواجهات بين جيش وشرطة وقطعان المستوطنين الإسرائيليين من جهة، وكل الشعب الفلسطيني من جهة ثانية بكل مكوناته على اختلافاتها وخلافاتها وتنوعها، من فصائل وسلطة رسمية، وشعب في القدس والضفة ومناطق 48 وغزة والشتات، فأسبوع عيد الفصح اليهودي، الذي حل ما بين يومَي الجمعة الماضي والخميس القادم، أي بعد غد، سيظل فيه أو خلاله حبل المواجهة مشدوداً، على آخره، ما أن يُظهر حارس القدس الأمين، أي الجانب الفلسطيني غفلة ما، لا قدّر الله، حتى ينقض المحتل على الحرم القدسي الشريف.
وبعد أن كان أول يوم من المواجهة صعباً جداً، تخللته الاقتحامات من الجانب الإسرائيلي والاعتقالات والإصابات في الجانب الفلسطيني، وكان ذلك يوم الجمعة الماضي، هدأت الأمور في اليوم التالي لأنه كان فقط يوم السبت، فيما عاود المحتل الإسرائيلي محاولته مجدداً صباح الأحد، لكن التصدي الفلسطيني الذي كان ميدانياً يعتمد على عدد قليل من المرابطين؛ بسبب منع الجيش والشرطة الإسرائيلية تدفق المصلين للحرم القدسي الشريف، والذين لم يتجاوز عددهم الألف، تم اعتقال وإصابة أكثر من نصفهم في اليوم الأول من المواجهة في مسعى إسرائيلي لتعبيد الطريق أمام اقتحامات المتطرفين اليهود من جماعات الهيكل سيئة الصيت والسمعة، ولكنه كان يحيط المرابطين باستنفار فصائلي وسياسي وشعبي وعلى كل المستويات، ما حقق حتى اللحظة «توازناً»، يعتبر نجاحاً على الجانب الفلسطيني وفشلاً على الجانب الإسرائيلي.
حتى اللحظة، يمكن القول: إن الهدف الرئيس من اقتحامات جماعة الهيكل هذه السنة متمثلاً بذبح القرابين قد فشل، وذلك لأن فصائل المقاومة جعلت من هذه النقطة أو هذا البند بالتحديد عقدة منشار الاتصالات التي جرت عبر الوسيط المصري على نحو خاص، وهددت بأنه لو حدث، سيكون سبباً في اندلاع المواجهة العسكرية، أي سيتم الرد عليه بإطلاق الصواريخ من غزة وإطلاق النار من عموم مدن الضفة الغربية، فيما لا يزال الهدف السياسي لحكومة بينيت - لابيد اليمينية المتشددة، والمتمثل بتحقق التقسيم الزماني والمكاني للحرم القدسي، ماثلاً من خلال إفراغ باحات الحرم من المصلين الفلسطينيين، لإدخال المتطرفين اليهود، في أوقات محددة، لو جعلت منها تقليداً، لكن ذلك يعني تقسيماً زمانياً، يتبعه تقسيم مكاني، ينتهي بهدم مربعات من الحرم، من المسجد الأقصى وربما قبة الصخرة، وذلك كمقدمة لبناء الهيكل المزعوم.
هذا المسعى لم يتوقف منذ سنوات، وكلنا يتذكر كيف وقعت المواجهة قبل أعوام حين شرعت قوات الاحتلال بإقامة البوابات الإلكترونية، وكيف كان الحال العام الماضي في مثل هذا التوقيت حيث اندلعت المواجهة التي سمّيت من الجانب الفلسطيني «سيف القدس»، ومن الجانب الإسرائيلي «حارس الأسوار»، وحقيقة الأمر تبقى القدس هي مفتاح الحرب والسلم بين الجانبين، وهي الوتر المشدود دائماً، وأي إخلال بالحالة القائمة يشعل النار، التي قد لا تقتصر على طرفيها فقط، وهذا كان الحال منذ أكثر من عشرين سنة.
ففي أيلول العام 2000 وكان أرئيل شارون يطمح لاحتلال موقع قيادي في حزب الليكود الحاكم، قام باقتحام الحرم القدسي، كما يفعل هذه الأيام المتطرف اليهودي الليكودي إيتمار بن غفير، فكان أن اندلعت انتفاضة العام 2000، والتي سمّيت بالمناسبة «انتفاضة الأقصى»، وهكذا يبقى الأقصى بالتحديد، والقدس عموماً، روح فلسطين، التي تبث في الشعب الفلسطيني طاقة المقاومة والتصدي بشكل لا مثيل له، كما تدفعهم لتجاوز خلافاتهم واختلافاتهم، فحتى عباس منصور، اضطر للقيام بخطوة فارغة من المضمون والأهمية، أول من أمس، بتعليق مشاركته في الائتلاف الحكومي الذي هو عضو فيه، وذلك بالتنسيق مع حليفه نفتالي بينيت!
والحقيقة، كما كان حال الشعب الفلسطيني دائماً، حين تشتد حوله الأحوال وتسوء أمور الإخوة والأشقاء، يجترح المعجزة، وذلك ميدانياً، حيث إنه واضح في هذا العام ضعف ردة الفعل العربية على نحو خاص؛ بسبب ما وقّع قبل عامين من اتفاقيات تطبيع سمّيت «اتفاقيات أبراهام»، حدث هذا العام، أن تصدى الشعب الفلسطيني بقوة، تجاوزت ما اعتقده الجانب الإسرائيلي المدفوع للانسجام مع جماعة الهيكل بسبب رئيس الحكومة المنتمي أصلاً للمستوطنين، وثانياً بعد فقدان حكومته أغلبيتها البرلمانية الضيقة، من قدرة على استغلال الظرف الدولي المنشغل بالحرب بين روسيا وأوكرانيا، وانخراط بعض العرب في عناق التطبيع المشبوه، والذي يتحول بسرعة ما بين إسرائيل وكل من الإمارات، البحرين والمغرب، إلى حب خاص، يصل لدرجة التحالف الأمني، والى إبداء «هؤلاء العرب» نيتهم مشاركة إسرائيل احتفالها باغتصاب فلسطين وإيقاع النكبة بشعبها، بما تسمّيه دولة الاحتلال العنصرية «استقلال إسرائيل»، وذلك منتصف أيار القادم.
ابتدع الشعب الفلسطيني العظيم، ميدانياً، قدرته على مواجهة الجيش الإسرائيلي المدجج بكل أنواع السلاح، والمسلح بغطاء سياسي حكومي يشرع له القتل الميداني بكل خفة ويسر، ولم يجبن كما هو حال معظم الرسميين العرب، الذين يسعون إلى إسرائيل لحمايتهم من غيرها، بدلاً من أن يحموا أنفسهم بأنفسهم، ففي جنين لم يهرب المقاومون ولا المجاهدون، بل تقدموا خطوة نوعية على طريق الردع، تمثلت بإحاطة شوارع ومداخل جنين بالمتاريس، ومن ثم التصدي بسلاحهم الفردي لقوات الاحتلال حين دخلت المدينة، فارتقى منهم الشهداء بشجاعة المواجهة وجهاً لوجه، فيما اجترح المرابطون والمقاومون في القدس، بعد أن منعتهم قوات الاحتلال من دخول الحرم للمرابطة فيه والتصدي لاقتحامات اليهود المتطرفين، بالانتقال من حالة الدفاع إلى الهجوم، وذلك بقطع الطريق على حافلات المتطرفين وهي متجهة للقيام بفعل الاقتحام الشرير.
وما زال عض الأصابع قائماً، وما زال المحتل الإسرائيلي يوزع الأدوار بين قيادات حكومة اليمين البديلة، بين بينيت ولابيد وغانتس، وفي هذا السياق جاء عرض غانتس الذي يقول فيه بحل يتضمن كيانين (فلسطيني وإسرائيلي) مع هيمنة أمنية إسرائيلية، منفصلين سياسياً، لكنهما متداخلان اقتصادياً، مع تواصل جغرافي سريالي للكيان الفلسطيني معتمداً على بنية تحتية للمواصلات، أي الحديث لا ينطوي على إخلاء المستوطنات، فيما الحديث عن انفصال سياسي إنما هو شكلي، والعرض ليس أكثر من طعم يقدمه وزير الجيش الإسرائيلي للقيادة السياسية الفلسطينية المجربة والمحنكة عساها تخفف من صرامة قيادتها للتصدي للهجمة الإسرائيلية، في الوقت الذي يأمل فيه غانتس أن يظل هو الرجل الأكثر تأهيلاً للمرحلة القادمة، والأكثر قبولاً لدى واشنطن بالتحديد للجلوس على الطرف المقابل حين تجري المفاوضات.