لا يبدو أن التصريحات الأميركية التي تلحّ على ضبط النفس، والتعبير عن القلق، وصولاً إلى الزيارة التي قام بها وفد رفيع المستوى وضعيف الدوافع والرغبة في إجراء تبديل حقيقي في السياسة الأميركية، يمكن أن يلجم إسرائيل، لا يبدو أن كل ذلك، سيؤدي إلى نزع أسباب التصعيد.
حتى لو أن الإدارة الأميركية أعطت مزيداً من الثقة بالدور المصري كوسيط لتبريد الأوضاع، أو أنها أعطت تطمينات للأردن فإن ذلك، أيضاً، لا ينفع في وقف التصعيد. لا نعرف، بغياب التصريحات، إذا ما كان الوفد الأميركي، قد أعطى للسلطة الوطنية وعوداً بتنفيذ بعض الإعلانات المجمّدة حتى الآن، ما يمنحها المبرر لعدم الإقدام على تنفيذ قرارات المجلس المركزي، ولكن حتى لو حصل ذلك، فإنه لا يمنع استمرار حالة التصعيد.
السبب الرئيس في ذلك، هو أن الجهد المثمر في اتجاه وقف التصعيد يكمن في إرغام إسرائيل على الرضوخ للتوجهات الدولية التي تطالب بفتح المسار السياسي، نحو أفق لحلول وطنية، وهو أمر أقرب إلى المستحيل. الكل يعرف ذلك، إذ إن غير ذلك يتطلب تغييرا جوهريا في طبيعة إسرائيل، واستراتيجياتها وأهدافها، ووقف تطلعاتها التوسعية التي تشمل كامل الضفة الغربية والقدس، وما بعدها على المستوى الإقليمي. الدولة تعرف نفسها وهويتها على أنها دولة اليهود، وبأنها وبالتالي دولة عنصرية، وهي دولة لا حدود لها، ولا تعترف بأنها دولة احتلال، وتعلن أن الضفة الغربية ليست أرضاً محتلة.
يرفض اليمين المتطرف الذي يتسيد بالكامل على الحياة السياسية في إسرائيل، أن يجري أي مفاوضات سياسية مع السلطة، ورئيس الحكومة يرفض بين الحين والآخر، أي تفكير بإجراء لقاء مع الرئيس محمود عباس.
تكذب الأوساط السياسية الإسرائيلية حين تعلن أنها لا تنوي فرض التقسيم الزماني والمكاني على المسجد الأقصى ذلك أن وقائع الأحداث اليومية تؤكد أن إسرائيل ماضية في تحقيق هذا الهدف تحت عنوان كاذب آخر، وهو أنها ملتزمة وتعمل على إعطاء الحق لكل الديانات، لممارسة الشعار الدينية.
بعد المسجد الأقصى، وعدا عمّا يجري يومياً في ساحاته، تقوم الحكومة الإسرائيلية بتحديد عدد المسيحيين الذين يمكن وصولهم إلى كنيسة القيامة لإحياء عيد سبت النور. وبموازاة ذلك تزداد أعداد المتطرفين الذين يمارسون وظيفة اقتحام المسجد الأقصى، بمشاركة وحماية رسمية من قوات الشرطة والجيش التي تمنع أصحاب الديانتين الإسلامية والمسيحية من الوصول إلى أماكن العبادة وتسمح لليهود المتطرفين، وتحرض على انضمام المزيد منهم إلى من يواصلون اقتحام المسجد الأقصى.
من يسعى ويرغب في تحقيق التهدئة عليه أن يقنع أو أن يرغم إسرائيل على التوقف عن مخططاتها التهويدية فالمسجد الأقصى مكان خالص للمسلمين، وكنيسة القيامة مكان خالص للمسيحيين.
ليس هذا وحسب بل إن على إسرائيل، أن تتوقف عن سياسة الاقتحامات للمدن والقرى والمخيمات الفلسطينية، وأن تضمن ممارساتها المساواة بين مواطنيها من اليهود وغيرهم، وعليها، أيضاً، أن تتوقف عن مصادرة الأرض وتسمين المستوطنات، وهدم البيوت، وممارسة سياسة التطهير العرقي.
السياسة الإسرائيلية التي تستدعي التصعيد، ليست حصراً على ما تقوم به في الضفة الغربية والقدس، بل إن هذه السياسة تمتد لتشمل أراضي 48 والشواهد على ذلك تكاد لا تحصى.
المستويات الأمنية والسياسية في إسرائيل لا تتوقف عن التعبير عن مخاوفها إزاء ردود فعل الفلسطينيين في مناطق 48، خصوصاً في حال امتداد التصعيد إلى قطاع غزة. حصل ذلك خلال العدوان الإسرائيلي في أيار العام المنصرم والأوضاع مهيأة تماماً لأن يتكرر ما وقع في حال انخراط غزة في أي تصعيد قادم.
إسرائيل التي لا ترغب بل وتتجنّب بكل طريقة، انخراط المقاومة في غزة، في أي تصعيد قادم، لا تخفي مخاوفها من ذلك، ولذلك فإنها تعلن الامتناع عن الردّ عسكرياً على سياسة تنقيط إطلاق الصواريخ، وتعتمد لمعاقبة غزة على الوسائل الإنسانية.
كم مرة قلنا وقال آخرون، إنه لا يمكن الوثوق بالتزام إسرائيل بأي تفاهمات، أو الالتزام بأي تسهيلات تقدمها سواء للضفة أو خصوصاً لغزة. هي تتخذ قرار منح التسهيلات وهي تغلقها في أي وقت، كما يحصل هذه الأيام حين تغلق معبر بيت حانون، وقد تقلّص مساحة الصيد، أو تتراجع عن السماح بوصول بعض المواد لقطاع غزة.
ربما حان الوقت لإسرائيل بأن تصل إلى قناعة بأن سلاحها الاقتصادي، والضغط من باب القضايا الإنسانية، لا يمكن أن يجعل الفلسطينيين يقبلون بمقايضة القضايا المعيشية والإنسانية بحقوقهم الوطنية، وأرضهم ومقدساتهم.
فشلت إسرائيل أكثر من مرة في فرض مخططاتها على الأقصى، ولكنها لن تستسلم، وستعود إلى التصعيد في وقت قريب قادم. التوتر والتصعيد أصبح السمة الأساسية التي تسيطر على المشهد، والأسباب كثيرة التي تحمل على الاعتقاد بأن لا هذه الحكومة ولا أي حكومة قادمة في إسرائيل يمكن أن تتخذ مساراً آخر.