تشهد وسائل التواصل الرقمية طوفاناً من الناقمين والشاجبين والساخرين والمعارضين، والناقدين، ممن ينتقدون ويسخرون من الشيء ونقيضه في الوقت نفسه!
اتصل بي أحدُهم في يوم مطر شديد وقال ساخراً: هل رأيتَ رجال البلدية وهم ينصبون قفصاً خشبياً صغيراً على مجرى سيل صغير، ليتمكن العابرون أن يجتازوا السيل؟ واصل هازئاً: هذا المشهد أخجل مهندسي الصين وقرروا الحضور إلينا لاقتباس هذا الاختراع الفريد!
ظنَّ هذا الساخر أنني سأبتهج بما قال من سخرية جارحة تشوه العاملين الكادحين، وهم يقومون بواجب مضاعف لخدمة أهلهم، ولكنه عندما لمس عدم الرضى مني، ولم يظفر بتعليقٍ ساخر ليزداد مُتعة، حاول تغيير مسار الحديث وشجب تقصير البلدية، التي أعلنتْ استعدادها عن مواجهة الكارثة قبل حدوثها!
هذا (الساخر) هو نفسه كان يجلس أمام المدفأة وهو يسكن على بعد أمتار قليلة من هذا السيل، يلعب بأنامله على لوحة مفاتيح كمبيوتره الخاص، فهو لم يتطوع حتى بمساعدة صغار السن من اجتياز السيل أمام بيته العامر!
أعرفُ شخصاً آخر اعتاد أن يُردد دائماً: إنَّ راتبنا الشهري مقدس، ولا يجب أن ننساق وراء العواطف، يجب علينا مواصلة سياسة التنسيق مع إسرائيل، لتستمر حياتُنا اليومية من أجل مستقبل أبنائنا! هو نفسه بعد وقتٍ وجيز، نسي تماماً عقيدته السابقة تحت وطأة ظاهرة التجييش الإعلامية وطرحَ سؤالاً جديداً في صورة التمني: متى ستحل السلطةُ الوطنيةُ نفسَها، وتوقِف التنسيق مع إسرائيل؟!
أما الشخصية الأخرى فهي شخصية رجل أعرفه عن قرب شرع في السخرية والاستهزاء من وعود السياسيين الذين هددوا بشن هجمات صاروخية على إسرائيل، ولكنهم لم يُوفوا بوعودهم حتى الآن، فهم جبناء لم يُطلقوا صاروخاً واحداً على إسرائيل!
هذه الشخصيةُ كان مواظباً على الاتصال بي خلال كل الحروب التي شنها الاحتلالُ على غزة، كانت أمنيته الوحيدة؛ أن يتوقف إطلاق الصواريخ، كان يردد: « كفانا ما أصابنا من خراب ودمار وقتل!
ومن مشابهي هذه الشخصية شخصيةٌ أخرى اعتادت الاحتجاج على كثرة المتسولين لأنهم يشوهون صورة الوطن، ويزعجون السائرين، وبَّخ هذا الناقدُ الحكوماتِ والمسؤولين ورجالَ الأحزاب، لأنهم لم يقوموا بواجبهم لمكافحة ظاهرة التسول، لأنها ظاهرة تُسيءُ لسمعة الوطن، هو نفسه احتجَّ بعد فترة وجيزة على شرطي اعتقل أحد المتسولين من الشارع، في صفحته الإلكترونية، وقال: ها هم رجال الشرطة يعتقلون المتسولين المساكين، اتركوهم يتسولون!
إن هذا التناقض ليس هو النقد التصحيحي المطلوب لتحقيق الإنجازات وتعديل المسار، بل هو نقدٌ استشفائي مَرَضي، غايتُه التشفي ينتشر في المجتمعات المريضة العاجزة، هو فيروس خطير يتفشى بسرعة عبر وسائط الاتصال الرقمية، غايته الرئيسة هي إحباط بقايا العاملين المخلصين، ودفع النشء للهجرة من الوطن، ونشر مرض اليأس والقهر والإحباط وهو مرض الأوطان المهزومة بلا حروب عسكرية!
سأظل أردد قول الشاعر مظفر النواب: « قتلتْنا الردة، قتلتنا أنَّ الواحدَ مِنَّا يحملُ في الداخل ضِدَّه».