من مسرح أوكرانيا حيث الحرب الروسية عليها منذ حوالي 70 يوماً، يشهد هذا البلد تبادلَ الاتهامات واللغة الساخنة بين الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي من جهة، وروسيا من جهة أخرى، على خلفية الدعم المادي والعسكري الذي يقدمه الغرب لمساعدة كييف على الصمود في وجه القوات الروسية.
لا يمكن اختصار التوتر بين روسيا والغرب الأميركي والأوروبي بموضوع دعم أوكرانيا، وإنما ثمة قلق أميركي من الصعود الروسي على الساحة العالمية والتوسع في القارة الأوروبية، وهو نفس القلق الذي يتشاركه أعضاء حلف «الناتو»، باستثناء أن الولايات المتحدة تسخنهم كل الوقت لتحويط النفوذ الروسي وتهديد أمنه.
حتى «يتغدى» الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بواشنطن وحلفائها قبل أن «يتعشوا» به، هدد هذه الدول بالانتقام الفوري والسريع إذا أعلنت الحرب مع أوكرانيا ضد موسكو، وفي نفس الوقت وضع قواته النووية في حالة تأهب قصوى، وجرى حديث مكرر من جانب الإعلام الروسي الرسمي عن قوة هذا السلاح واحتمالات استخدامه ضد دول أوروبية مثل لندن، وإبادتها بصاروخ واحد في مدة زمنية لا تتجاوز الأربع دقائق.
المحصلة أن الولايات المتحدة وحلفاءها تجنبوا اختبار التهديدات الروسية وفضلوا تقديم الدعمين المادي والعسكري لأوكرانيا، في حين ضيقوا اقتصادياً وسياسياً على موسكو لثنيها على مواصلة عمليتها العسكرية، ومن المرجح أن يبقى هذا التضييق سارياً حتى بعد أن تضع الحرب أوزارها.
غير أن بوتين مضى في تخويف أعضاء حلف «الناتو»، إلى حد إجراء قواته حديثاً محاكاة لعملية إطلاق صواريخ قادرة على حمل رؤوس نووية في منطقة كالينينغراد المطلة على ساحل البلطيق حيث تقع كل من بولندا وليتوانيا العضوتين في حلف الشمال الأطلسي.
هذه المحاكاة تتزامن مع تصريحات ديمتري ميدفيديف نائب رئيس مجلس الأمن الروسي الذي تحدث بشأن إعلان دول «الناتو» «غسل يدهم» من روسيا، بما يعني نقل رؤوس نووية أميركية وأوروبية إلى دول قريبة من موسكو مثل بولندا وليتوانيا، والقيام بمناورات عسكرية مجاورة للحدود الروسية.
هنا يكمن «مربط الفرس»، وهو أن روسيا لا تريد أن تنضم أوكرانيا لحلف الشمال الأطلسي، لأن ذلك يهدد أمنها وقد يسمح بالمستقبل توسيع ما يسمى خطة «المشاركة النووية» التي تقضي بنقل أسلحة نووية من دول مصنعة لهذا السلاح وتقع تحت مظلة الحلف مثل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا إلى دول أخرى مثل بولندا وفنلندا والسويد وربما أوكرانيا.
في كل الأحوال ثمة دول في «الناتو» تخزن فيها أسلحة نووية منذ العام 2009 تحت سياسة «المشاركة النووية»، وهذه الدول هي هولندا وألمانيا وبلجيكا وتركيا وإيطاليا، ولم تكن روسيا تقيم وزناً كبيراً لهذا الموضوع آنذاك، كونها كرست كل جهدها في تحديث ترسانتها الحربية بما في ذلك النووية.
وأكثر ما ركزت عليه موسكو في خطة إعادة التحديث، هو بناء وتطوير أسلحة استراتيجية تندرج تحت إطار الضربة الاستباقية والردع النووي، وهذا ينطبق تماماً على الطائرات الحربية والصواريخ الباليستية طويلة ومتوسطة وقصيرة المدى، والتي يمكنها حمل رؤوس نووية.
من المستبعد في كل الأحوال أن يلجأ الرئيس الروسي إلى استخدام السلاح النووي، لأنه حتى لو بدأ توجيه ضربات انتقامية استباقية، فلن تسلم بلاده من القصف النووي، وستكون الكارثة قد حلت على الجميع. الفكرة من إجراء هذه المحاكاة النووية هو أخذ التهديدات الروسية على محمل الجد.
تريد روسيا من الغرب أن يفهم أن أوكرانيا خط أحمر وينبغي أن تبقى على الحياد، أو أن يقتطع جزء منها يذهب إلى روسيا، وتكبل باتفاقيات تمنع انضمامها إلى حلف «الناتو»، أو نقل أسلحة استراتيجية من أعضاء الحلف إليها، وكذلك الحال منع توسيع خطة «المشاركة النووية» إلى دول قريبة من روسيا.
كذلك يريد بوتين من هذه المحاكاة أن يضغط على الأوروبيين تحديداً لمنع تقديم الدعم العسكري لأوكرانيا، وهي رسالة أخرى إلى الولايات المتحدة الأميركية أن تكف عن زج حلفائها في أتون حرب قد تشعل العالم. كذلك هي رسالة لمختلف الأطراف الدولية أن الدب الروسي له ثقل كبير في النظام الدولي ويحسب لقوته ألف حساب.
أيضاً يمكن القول إن محاكاة إطلاق هذه الصواريخ القادرة على حمل رؤوس نووية، هي رسالة موجهة للداخل الروسي، إذ كان يعتقد على الصعيد الشعبي أن تنجح القوات الروسية في تحقيق انتصار سريع وحاسم في أوكرانيا، ومع الأسف مضى على هذه الحرب شهران وعشرة أيام وما يزال الجيش الروسي يخوض معارك عنيفة مع الأوكران على أراضيهم.
هذا الاختبار النووي الافتراضي ربما يدغدغ المشاعر الوطنية للرأي العام في روسيا، ومحاولة لإعادة توحيد صفوف الجماهير التي تنتقد حرب بلادها ضد أوكرانيا. من الجائز أن بوتين أراد تعظيم مصطلح العدو، حتى يعيد شحن طاقة الجماهير لموالاته والاصطفاف معه في نفس الخندق.