الحروب ليست مزحة، فهي تعني نهاية أحلام البشر الذين كانوا وقودها لحظة أصيب قادة عبر التاريخ بلوثة القوة، واتخذوها وسيلة لتحقيق أهدافهم بديلاً عن التفاهم فتركوا خلفهم مدناً محروقة وقلوباً محطمة وثكالى انتظرن الأبناء الذين التهمتهم النيران، وزوجات انتظرن وردة حمراء من المتعبين من المعارك بدلاً من بقايا ملابس مغمسة بالدم.
أما في أوروبا فكانت الحروب كارثية، حيث تبدأ بطلقة أو برشقة في مدينة واحدة، ولكنها لا تضع أوزارها قبل أن تكون قد أحرقت كل العواصم، وتكون قد جرت كل دولها وشعوبها واقتصادها ليلتقي سادة الحرب بعدها على مائدة نصبت فوق الركام، ليكتبوا ما كان يمكن كتابته دون أن يتركوا البشر يعيشون حياتهم بدون هذا العنف الذي تتزايد حدته مع كل حرب جديدة تدخل فيها أسلحة حديثة أكثر فتكاً.
الحرب الدائرة حالياً هي حرب عالمية وفقاً لطبيعة الاصطفافات فيها والأدوات المستخدمة ولاتساع رقعتها.
صحيح أن القتال بالسلاح ينحصر في الأراضي الأوكرانية ولكن الصراع بباقي الأدوات يبدأ من واشنطن ويكاد يطال كل العواصم بالإعلام والتكنولوجيا والأهم بالاقتصاد، ليس فقط باعتباره أحد نتائج الحروب بل كمحرك رئيسي لها، كان كذلك منذ بدء صراعات التاريخ، حيث كان يقف الاقتصاد خلف السلاح، لكنه الآن بات يقف في المقدمة وهو من يحرك كل أدوات القتل.
هذه الحرب تذهب أبعد من الحروب السابقة. صحيح أن ميدان السلاح والدم في أوكرانيا لكن المعاناة الإنسانية تنتشر على جغرافيا أكثر اتساعاً. وإذا كانت الحربان العالميتان الأولى والثانية طحنت أوروبا وشبابها ومدنها واقتصادها، فإن الألم الإنساني في هذه الحرب يمتد أبعد من أوروبا ويطال اقتصادياً دولاً فقيرة لا تحتمل ترف صراع الأقوياء في القارة وخلف البحار والمحيطات.
روسيا وأوكرانيا مخزنان للغاز والغذاء في العالم، لم تتضح الأزمة بشكلها الحقيقي بعد بسبب المخزون الموجود لدى الدول أو بسبب سريان اتفاقيات سابقة، لكن العالم مشرف على كارثة كبيرة في الطاقة وفي المواد الغذائية الأساسية، واذا كانت أوروبا قادرة على تمويل نفقات الطاقة فإن العالم العربي وأفريقيا سيتعرضان لمجاعة حقيقية اذا ما استمرت هذه الحرب وطال أمدها. وبات واضحاً وفقاً لموازين القوى أن روسيا التي سيطرت على الجزء الشرقي والجنوبي البحري من أوكرانيا وعدم تدخل «الناتو» والولايات المتحدة بشكل مباشر لتعديل تلك الموازين ولأسباب معروفة، أبرزها السلاح الذري الذي قد يدمر نصف الكرة الأرضية، بات واضحاً أن نهاية الحرب ليست قريبة.
العالم لم يتعافَ بعد من آثار «كورونا» وكان بحاجة الى عقد من الزمن لترميم انكساراته النفسية والاجتماعية والاقتصادية، وقد ساد الاعتقاد أن هذا الوباء أعطى للبشرية درساً في الانسانية والحروب وويلاتها، وربما يكون قد أحدث هزة للضمير الإنساني. وتفاءلت البشرية وهي ترى العالم موحداً ضد عدو مشترك لتأتي هذه الحرب المجنونة لتقول إن نزعات البشر العدوانية أقوى كثيراً من الضمائر، كأن البشرية لم تتعظ  رغم كل التطور والتقدم الحاصل على الصعد الثقافية والقانونية والإنسانية بعد كل هذه الصراعات وكل تلك التجارب.
اقتصاديات الدول الفقيرة وهي كثيرة كانت تتهاوى تحت وقع الوباء، كانت بحاجة الى رحلة إنعاش طويلة خلفت ما يكفي من المآسي الإنسانية الصامتة في الكثير من الدول من زيادة بطالة انعدام فرص العمل وغلاء الأسعار، وما تركته من اضطرابات اجتماعية ونفسية. والآن تكمل هذه الحرب المجنونة تحطيم تلك المجتمعات حد الاعدام. صحيح أننا لم نشاهد كل هذه الآثار، ولكننا أمام كارثة محققة اذا لم تتوقف هذه الحرب التي تمتد رقعتها على ما هو أبعد من أوروبا لتطال الشعوب الفقيرة.
أزمة هذه الحرب أن لا قوة عسكرية قادرة على إحداث تكافؤ أمام القوة الروسية ليكون التفاوض الناتج عن هذا التكافؤ خياراً. وبالمقابل ترفض الدول التي تقف خلف أوكرانيا السماح لها بالاستسلام لتفتح خيار التفاوض أيضاً.
 وأمام تلك القوة التي تطوي مدن أوكرانيا واحدة تلو الأخرى وعودة الروبل الروسي للارتفاع أمام الدولار الأميركي، والذي كان أحد خيارات الضغط على موسكو للتعجيل بإنهاء الحرب. لذا باتت المسألة عالقة وتشي باستمرار الحرب، وتصاعد الكارثة الإنسانية لشعوب مسكينة شاء قدرها أن تقع أولاً ضحية فساد قادتها وتواضع قدراتهم الإدارية وعدم كفاءتهم في تحقيق اكتفاء ذاتي زراعي وصناعي وغذائي لدى نظم فاسدة.
ماذا يعني أن يفشل العالم بعد كل تلك التجارب في وقف مأساة انسانية بإمكانه حلها؟ ماذا يعني أن تقف المؤسسات الدولية عاجزة أمام كارثة تهدد البشر؟ صحيح أن موازين القوى هي لعبة الحرب والسياسة وتحدد نتائجها قبل أن تبدأ. حتى وما دامت الموازين مكشوفة بهذا القدر وما دام العالم غير قادر على التدخل عسكرياً لصالح كييف، وأقصى ما فعله هو إرسال بعض المرتزقة أو كميات من السلاح أو أموال لا تصنع قوة في ميادين المعارك، وإذا كانت نتائج الحرب معروفة سلفاً، وهكذا تخطط الدول الكبرى قبل أن تبدأ حروبها، فلماذا هذا النزيف لجسد البشرية التي تشبعت بما يكفي من الآلام. فلماذا لا تتفاهم الدول الكبرى على ما يحفظ مصالح البشرية بدل إهدار مواردها بالسلاح والموت، أليس هذا جنوناً؟ أم أن انفلات سطوة الاقتصاد بات أقوى من رجال السياسة؟ ذلك ممكن في عصر بات فيه رجل أعمال يملك موازنة أكثر من أربع أو خمس دول... لقد اضطرب ميزان البشرية منذ زمن وبات بحاجة إلى إعادة ضبط من جديد، وإلا فإن وجه البشرية سيبدأ رحلة آلامه مرة أخرى على جسد الفقراء، سواء كانوا جنوداً يحاربون أو جوعى يتضوّرون على امتداد الكون ...!