انتهت في بغداد الأسبوع الفائت، الجولة الخامسة للحوار السعودي – الإيراني، بمشاركة عُمانية هذه المرة، وبتقييم للنتائج، غلبت عليه «الإيجابية» وروح التفاؤل، فيما ينتظر أن تلتئم الجولة السادسة على المستوى السياسي والدبلوماسي، بعد أن ظلت الجولات الخمس الأولى، محصورة بالجوانب الأمنية الثنائية والإقليمية.
لم تضرب الأطراف موعداً محدداً لالتئام الجولة السادسة بعد، ولم تقرر ما إذا كانت ستُعقد على مستوى وزيري خارجية البلدين، أم دون ذلك… الإبقاء على قدرٍ من «الغموض» حول هاتين المسألتين، ربما يعود إلى حرص الأطراف على مراجعة حصاد الجولات السابقة، وسبر أغوار بعضها البعض، والتأكد من مواطئ أقدامها في المرحلة المقبلة، وهي أمورٌ مفهومة تماماً، بالنظر لثقل عوامل الفرقة والتباعد بين الطرفين، وسيادة أجواء انعدام الثقة المتبادلة بينهما.
استمرار الحوار بين الجانبين، لخمس جولات صعبة، يُظهر إرادة جديدة وجدّية لديهما لإغلاق ملفات الخلاف والصراع التي شغلتهما واستنزفت الكثير من جهودهما ومواردهما، أما الانفراجة الأخيرة على هذا المسار، فتعود لجملة من العوامل:
سعودياً؛ تبدو المملكة بصدد إجراء مراجعة أوسع وأشمل من مجرد استئناف العلاقات الطبيعية مع إيران، فما أن أشيعت الأخبار المتفائلة عن جولة الحوار الخامسة، حتى كانت الرياض تتحضر لاستقبال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بزيارة هي الأولى في نوعها منذ خمس سنوات على الأقل، بلغت خلالها العلاقات السعودية – التركية أدنى مستوياتها، إن على خلفية دعم أنقرة لجماعات الإخوان المسلمين إبّان ثورات الربيع العربي، أو بفعل انحيازها لقطر في أثناء الأزمة الخليجية، أو بسبب تداعيات تصفية الكاتب والصحافي السعودي جمال خاشقجي بقنصلية السعودية في إسطنبول.
وسبق للسعودية أيضاً، أن نجحت في ترميم علاقاتها مع باكستان، بعد فترة من البرودة والفتور التي ميزت علاقات استراتيجية – تاريخية ربطت البلدين أحدهما بالآخر، سيما بعد أن شعرت المملكة بـ»الخذلان» جراء الموقف الباكستاني «المُستنكف» عن المشاركة الميدانية في الحرب على اليمن، وهو أمرٌ عوّلت عليه الرياض، وكانت تُدرجه في باب «تحصيل الحاصل».
يأتي ذلك على خلفية «استدارات» في الموقف السعودي، ناجمة عن تبدّل في الأولويات بعد سلسلة من «الخيبات» في إدارة عددٍ من ملفات السياسة الخارجية كما حصل في اليمن وضد قطر وفي لبنان وسورية وغيرهما، حيث خرجت الرياض بـ»قليل من الحمص من مولد» حروب الوكالة وعواصف الحزم والحسم… أما الأولويات الجديدة للمملكة فتكاد تنحصر في إنفاذ «رؤية 2030» الطموحة، ونقل السعودي إلى مرحلة ما بعد النفط والكربون، ومن متطلبات ترجمة هذه الرؤية، التي تقوم على الاستثمار والسياحة والتجارة والترانزيت وتوطين التكنولوجيا، ضمان أعلى متطلبات الهدوء والاستقرار، وفض النزاعات مع دول الجوار.
أما إيران، فلديها مصالح عميقة، في الاندماج بالاقتصاد العالمي، والخليج (المملكة) إحدى الممرات الإجبارية لفعل ذلك، وهي ترغب بالانخراط النشط في سوق النفط والغاز والطاقة، سيما إن رفعت العقوبات الدولية المفروضة عليها حال التوصل إلى اتفاق في فيينا مع المجتمع الدولي… وإيران بدورها، أدركت أن لغة «الحسم العسكري» للصراعات الإقليمية وحروب الوكالة التي ميّزت العشرية الفائتة، لم تعد صالحة في زماننا، سيما بعد أن لمست لمس اليد، أن ثمة حدوداً لطموحاتها في اليمن، وأن الأرض تكاد تميد تحت أقدام نفوذها في العراق، وأن قوة حزب الله الاستثنائية، لن تمكنه من بسط هيمنته على كل لبنان، وأن سورية، درة تاج نفوذها الإقليمي، لن تظل ساحة نفوذ منفرد أو مهيمن لإيران وحرسها الثوري… بمعنى آخر، أن إيران قد تظل لاعباً وازناً في قوس الأزمات هذا، بيد أنها لن تتمتع بالهيمنة والتفرد بقيادة أية منظومة إقليمية، بوجود منافسين أقوياء، هم إلى جانب السعودية ومصر والإمارات، كل من تركيا وإسرائيل كذلك.
وسيكون لاتفاق يتمخض عن مفاوضات فيينا المديدة والمريرة، أثراً بالغاً “Game Changer” لإطلاق ديناميات جديدة في علاقات القوى الإقليمية، وسينعكس ذلك انفراجاً على عدد من أزمات المنطقة المفتوحة، بدءاً من اليمن وليس انتهاءً بلبنان… وربما لهذا السبب بالذات، تحرص القوى الإقليمية على ترتيب أوراقها، وإعادة التموضع، استعداداً لمرحلة استراتيجية جديدة، تبدو المنطقة مقبلةً عليها.
أضف إلى ذلك، أن الرياض (وطهران بكل تأكيد وإن من زاوية أخرى)، تراقب باهتمام تراجع الدور الأميركي في المنطقة، ورغبة واشنطن في دفع حلفائها لأخذ زمام أمنهم بأيديهم، ولا شك أن عواصم الخليج العربية وغيرها، تراقب بكثير من «الامتعاض» كيف تتصرف الولايات المتحدة في الأزمة الأوكرانية، وكيف تلقي بكامل ثقلها خلف كييف، في الوقت الذي تخلت فيه عن حلفاء لها في المنطقة، إن في زمن الربيع العربي وثوراته، أو في أفغانستان، أو إبان اشتداد الهجمات الحوثية (الإيرانية) على درة عرش المملكة: أرامكو.
لقد ولّى ذلك الزمن، الذي كانت فيه قوة كولونيالية تنسحب من المنطقة لتسلم الراية لقوة كولونيالية أخرى، فليس ثمة قوة دولية قادرة على ملء الفراغ الأميركي المستجد والمتعاظم، وربما هذا ما يدفع قوى إقليمية – وسيطة، للتقدم لملء هذا الفراغ، أو جزءاً منه على الأقل، وهذا يتطلب من جهة إخماد بعض النزاعات و»حلحلة» بعض الخلافات المزمنة، والانتقال إلى صيغ جديدة من «التعاون الإقليمي»، لم تتضح معالمها بعد، ولم تعرف أشكالها وأطرافها وأدوات عملها وحجم تأثيرها.
بهذا المعنى، ليست المملكة وحدها، من يستحدث هذه الاستدارات في سياسته الخارجية، قطر والإمارات فعلتا ذلك من قبل، وربما بصورة أسرع، بالنظر لفارق الحجم والظروف التي تؤثر على أداء كل دولة من هذه الدول… تركيا كانت سبّاقة في استحداث الاستدارة الكاملة في مقارباتها الخارجية وعلاقاتها الدولية، بدلالة رسائل الانفتاح شديدة الوضوح، بل قُل «الهرولة»، صوب إسرائيل ومصر والإمارات والسعودية، دون أن ننسى اليونان وأرمينيا كذلك.
لقد اختبر الطرفان، السعودي والإيراني، هذه المستجدات في المشهدين الإقليمي والدولي، في جولات الحوار الخمس، أولاها بدأت متشنجة، وتسيطر عليها «روح حرب الوكالة»، وخامستها التي اتسمت بـ»الإيجابية» و»التفاؤل»، وفي ظني أن تطورات الميدان اليمني إثر معارك مأرب، دفعت طهران للقيام بدور إيجابي سهّل التوصل إلى اتفاق الهدنة في اليمن، وهنا لا بد من التوقف عند مغزى المشاركة العُمانية في الجولة الأخيرة، والتي كانت مؤشراً حاسماً على استعداد إيران للبحث في الملف اليمني.
خلاصة الجولة الخامسة، أن البلدين بات لديهم «جدول أعمال» لمباحثات لاحقة، يتعين تناولها من قبل السياسيين وليس الأمنيين وحدهم، تتصل بالعلاقات الدبلوماسية المتبادلة، وقضايا التمثيل والحج والتجارة والمال والاقتصاد، فضلاً عن القضايا الإقليمية التي تبدأ باليمن، ولا تنتهي بأمن الخليج والممرات المائية، والمؤكد أن الطاقة ستدخل على ملفات الحوار، انتاجاً وأسعاراً وتزويداً، طالما أن البلدين يعتمدان وإن بأقدار متفاوتة، على النفط في ميزانياتهما واقتصادهما الكلي.
وأحسب أن الأزمة الأوكرانية تدفع الطرفين دفعاً لتسريع مسار الحوار والارتفاع بسويته ومستواه، بالنظر إلى ما ترتب عليها من اختناقات في مجالي الطاقة والغذاء، وفي ضوء رغبة البلدين المشتركة في تفادي الانخراط بقوة خلف فريقي الصراع المحتدم في أوكرانيا وعليها، واهتمامهما بمراقبة تطور علاقات القوة بين الأقطاب الدولية، سيما وأن الرياض، وطهران بدرجة أكبر، تحتفظان بعلاقات متشعبة مع كل من موسكو وبكين… وإذا كانت علاقات إيران بكل من بكين وموسكو قد بلغت ضفافاً استراتيجية من قبل، فإن الجديد في المشهد، أن السعودية تتطلع لنسج أوثق العلاقات مع الصين وروسيا، ولعله أمرٌ بالغ الدلالة، أن يجري الرئيس بوتين اتصالين هاتفين أو ثلاثة بولي العهد السعودي خلال الأزمة الأوكرانية، في الوقت الذي لم يجر فيه اتصال هاتفي واحد، بين الرئيس بايدن والأمير محمد بن سلمان.
لا يعني كل ما سبقت الإشارة إليه، أن طريق طهران – الرياض باتت سالكة وآمنة في الاتجاهين، أو أنها طريق ذو اتجاه واحد فقط، ففجوة الخلاف وانعدام الثقة بين الطرفين، ما زالت واسعة، وثمة أطراف محلية وإقليمية ودولية، ليس لها مصلحة في إتمام المصالحة والتطبيع بين البلدين، لكن العلاقات السعودية – الإيرانية، دخلت على الأقل، مرحلة «الاستعداد» لتنظيم الخلافات وإدارتها، توطئة لاحتوائها وتبديدها.