ذات صيفٍ قائظٍ من صباحات تموز اللاهب من عام 1994 من القرن الماضي، وتحت جذع نخلةٍ تُساقط رطباً جنياً على ضفاف النهر المقدس، كانت صرخة الولادة الأولى للصحفية الخالدة فينا الشهيدة شيرين أبو عاقلة، التي كان لها شرف المشاركة مع كوكبةٍ من زملائها وزميلاتها، الذين منهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وكنتُ واحداً منهم، إطلاق صوت فلسطين وصورتها من مدينة القمر.

 وتحت جذع شجرةٍ معمرةٍ على أطراف مخيم جنين، ذات صباحٍ دامٍ من صباحات أيار الحزين كانت إغفاءتها الأخيرة، تاركةً تباريح الألم ووجع الفقد في قلوب زملائها وزميلاتها ومحبيها ومشاهديها في أربعة أرجاء الأرض، الذين تألموا لرحيلها المبكر، فبكتها قلوبهم قبل عيونهم من فرط حزنهم عليها حتى بات توقيعها في خواتيم تقاريرها تميمةً تتردد على الألسنة، وتسكن سويداء الأفئدة، تاركة فراغاً مدوياً بحجم حضورها في بلاط صاحبة الجلالة يصعب ملؤه، فليس ثمة ما هو أكثر إيلاماً من غياب الأحبة سوى الغياب المفاجئ الذي يكون فيه الحزن كبيراً، والألم عليهم مضاعفاً.

بين الولادة البهيجة، والإغفاءة المفاجئة الحزينة، تنهض سيرةٌ حافلةٌ بالشغف والشظف والمشقة، وتنفتح فصول مسيرةٍ في أرشيف الذكريات بالصور الثابتة والمتحركة، تحكي قصة أيقونةٍ وفارسةٍ من فارسات الإعلام الوطني والعالمي ملأت الدنيا وشغلت الناس، في مماتها كما شغلتهم في حياتها، بإطلالاتها الدائمة من مواقع الأحداث، تكتب الأخبار والتقارير برشاقة عصفور، حتى بات القول فيها من فرط حرصها على دقة أخبارها وتفاصيل تقاريرها: "عند شيرين الخبر اليقين"، فلم تتوقف الصحفية المسكونة بدقة الأخبار قبل سرعتها خلال جائحة كورونا عن طَرق هاتفي بصورةٍ شبه يوميةٍ لتأخذ مني تأكيد خبرٍ أو نفي شائعةٍ كانت تنتشر انتشار الفطر بعد المطر على وسائل التواصل الاجتماعي، المحكومة بدكتاتورية الترند والمدمنة على أيقونات الإعجاب. 

لم تكن شيرين صحافيةً أو مراسلةً تقليديةً عادية، بل هي استثنائيةٌ في فعلها وفي قولها، وفي تحركها اللافت والرشيق أمام الكاميرا، تتحدث معها بثقةٍ وسلاسةٍ وهدوءٍ كما صديقتها، مثلما هي استثنائية حتى في صمتها وتهدّج صوتها، الذي يكاد يغيب خلف القناع الواقي من  تناثر الغازات التي يقذفها المحتلون على المتظاهرين بين البيوت، وتحت كروم  العنب وحقول الزيتون في بيتا  وبيت دجن وعزون ومسافر يطا وكفر قدوم، تقاسمهم عذاباتهم، وتأخذ حصتها من نزف جراحهم ووجع معاناتهم، وعلى هذا النحو الاستثنائي جاء رحيلها المفاجئ ، وتشييعها الذي يشبهها وتشبهه ، وأقيم لها على اتساع الكون سرادق عزاء كبير.

لطالما وقفت شيرين على حواف الخطر، وهي تكتب وترصد معاناة المعذبين المهددين بالترحيل والتهجير، وتصيخ السمع لأنات الجرحى والمصابين، وتكفكف دموع الثكالى والمكروبين، وتنشر وتُشَيّر أصوات من غابت أصواتهم في عتمة الزنازين، فكان صوتها بمثابة رجع الصدى للمحزونين والمروعين من اعتداءات جنود الاحتلال والمستوطنين الإرهابيين الطارئين على أرض التين والزيتون والبرتقال الحزين، حتى باتت هي خبراً مكتوباً بنزف جراحها عندما سالت قطرات روحها كحبر تقاريرها، ثمناً لإقدامها وفروسيتها وحريتها وحرية شعبها، وظلت شيرين محافظةً على ابتسامتها المضيافة عندما تلتقي زملاءها وزميلاتها والمعجببن المطالبين بالتقاط الصور مع  الأيقونة، مثلما بقيت وفيةً لرسالتها ولمهنيتها، وإيصال معاناة شعبها لكل من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

بعد مراسم التشييع الحاشدة لشهيد القدس فيصل الحسيني، والراحل الكبير أبو الوطنية الفلسطينية الشهيد الخالد ياسر عرفات، لم تشهد فلسطين تشييعاً كتشييع شيرين، فقد كانت المشاركة بجنازتها على مدى ثلاثة أيام استفتاء على حضورها الوارف بين جماهير شعبها، مثلما كان تكريمها بمراسم رئاسية وجنازة عسكرية  ومنحها نجمة القدس، تكريماً لسيرتها ومسيرتها مثلما هو تكريم لقيم الحق  والعدل وحرية الرأي والتعبير التي قضت الراحلة الكبيرة من أجلها، فكان تنكيل جنود الاحتلال بالجماهير الغفيرة التي حملت نعشها بمثابة اغتيالٍ جديدٍ لها ولرمزية حضورها في مماتها مثلما كان في حياتها، بيد أن ردود الفعل الدولية والشعبية المنددة بتلك الاعتداءات الوحشية هزت عرش الرواية الإسرائيلية التي ظلت تتكئ عليها إسرائيل طيلة أكثر من سبعة عقود حتى تبدَّى للعالمين وحتى أكثر حلفاء وأقرب أصدقاء إسرائيل زيف روايتها المثقوبة، وهشاشة حجتها أمام دماء شيرين التي لا تزال تلاحق قتلتها من مرقدها لتثأر من  مرتكبي المجازر بحق أبناء شعبها في الذكرى الرابعة والسبعين للنكبة التي تحل اليوم، فصورة إسرائيل التي تلطخت بدم شيرين لن تعود كما كانت قبله، وسترافع شيرين من مرقدها لتحاسب سافكي دمها وقاتلي أبناء شعبها.

رغم هشاشة روايتها وضعف حجتها منذ احتلالها لأرضنا قبل أكثر من سبعة عقود، لم تبد إسرائيل مرتبكة وفاقدة للمبادرة  يوما مثلما بدت أمام دماء شيرين، فكلما حاصرتها الإدانات الدولية سارعت إلى تبديل روايتها وفبركة أدلتها، فبدلت وغيرت، وزورت، وهددت، ولم تستقم لها رواية حتى الآن، ولن تفلح حتى لو أقرت بجريمتها من ترميم الكسر الكبير الذي أصاب صورتها وتماسك روايتها المضروبة أمام العالم، ولن تفلت من العقاب الذي ينتظرها في الجنائية الدولية، ولن تكون  إسرائيل كما أكد الرئيس غير مرة شريكة في أي تحقيق بجريمتها، فكيف للجاني أن يكون شريكا في جريمة ارتكبها بحق ضحية قتلها عامدا متعمدا ومع سبق الإصرار والترصد، كما تؤكد التحقيقات الجنائية والشواهد المرئية على الأرض، فالمكان الطبيعي للقتلة ساحات العدالة. 
  
 لا يليق بشيرين الرثاء، بل يليق بها الثناء، وستظل سيرتها حيةً بين أهلها ومحبيها، فمثلها من أصحاب النفوس الكبيرة والمآثر النبيلة، تبدأ حيواتهم بموتهم، ذلك أن ذكرهم وعلمهم الذي ينتفع به بعد رحيلهم سيكون بمثابة عمرٍ ثانٍ لهم، فرحيل الأحبة بين أهلهم ومحبيهم مجرد نعاس.