طلّاب يهود يعتدون على طلّاب فلسطينيين حاولوا إحياء ذكرى النكبة في جامعة «تل أبيب». الشرطة الإسرائيلية كانت موجودة لتكمل الدور الذي بادر إليه الطلبة اليهود لقمع النشاط السلمي.
هل يجيب هذا المشهد عن سؤال ورواية النكبة، وعن طبيعة الكيان الذي لا يتوقف عن تزوير وقائع التاريخ، لصالح رواية استعمارية لم تعد تقنع أحداً؟
يتكرّر المشهد الذي يقدم المجتمع الإسرائيلي بأكمله، كمجتمع ونظام سياسي مع كلّ أذرعه وأدواته القمعية، ليجسّد الطبيعة العنصرية والعدوانية الفاشية لهذا الكيان.
يحصل ذلك في كلّ مرّة يجري فيها اقتحام المسجد الأقصى، وفي كلّ مرّة يجري فيها اقتحام الحرم القدسي، وقبر يوسف وقبر راحيل، وفي كلّ مفترق يتواجد فيه المستوطنون.
إحياء الذكرى الرابعة والسبعين للنكبة، هو إحياء للحقوق الوطنية التاريخية للشعب الفلسطيني، وهو أيضاً، إحياء وتذكير بتاريخ طويل من الإرهاب الإسرائيلي وتذكير بمخططاته، وتذكير أيضاً، بوظيفته كأداة استعمارية تغرز خنجراً في قلب الأمّة العربية.
يعني ذلك، أن الخطاب الفلسطيني تاريخياً كان من المفروض أن يذكّر على نحوٍ دائم المجتمع الدولي، بأن حقوقهم لا تقف عند حدود الأراضي المحتلة العام 1967، وأن قبولهم بتسوية تستند إلى قرارات المجتمع الدولي، قد شكّل ويشكّل تنازلاً كبيراً لا يمكن بعده الطلب من الفلسطينيين تقديم المزيد من التنازلات.
ليس من المناسب بعد كل هذا الوقت العودة للتذكير بما كان يفترض بالفلسطينيين أن يستندوا إليه من القانون الدولي، ونقصد قرار الأمم المتحدة رقم (181)، كأساس قانوني لأيّ تسوية، خصوصاً بعد أن تكلّفت إسرائيل بمهمة تجريف الحقوق الفلسطينية ومتابعة مخططاتها التوسعية لتشمل كل أرض فلسطين التاريخية.
يتبجّح نفتالي بينيت، أنّ دولته تملك جيشاً يتفوق على كل الجيوش المعادية مجتمعة. خطاب تكرّر على لسان أكثر من مسؤول إسرائيلي سياسي وأمني، ولكنهم يعرفون أن عصر قيام جيوش عربية بمواجهة الجيش الإسرائيلي قد انتهى على الأقلّ في المدى الزمني المنظور، وأن جيشهم الذي لا يُقهر، يواجه شعوباً متمرّدة، تحيله إلى شرطة و»حرس حدود» وخيّالة، يعجز أمام الحجر، والإرادة التي تزداد صلابة، ويعجز أمام إصرار الشعب الفلسطيني على التمسّك بحقوقه.
هذا ليس كلاماً إنشائياً، أو عاطفياً، إذ تعترف إسرائيل بطرق مباشرة وغير مباشرة، بأن المواجهة لم تعد فصائلية وحسب، فلقد أكدت عملية «إلعاد» وما قبلها، أن المقاومين، لا ينتمون لفصائل وليسوا معروفين بنشاطٍ سياسي.
قد لا تعترف إسرائيل صراحة بالهزيمة مرّة أخرى، كلّما حاولت تنفيذ مخططاتها في القدس، وهي بالتأكيد لن تعترف بهزيمتها أمام دم الشهيدة شيرين أبو عاقلة.
شيرين التي دأبت على كشفِ الحقائق بجرأة، ومهنية عالية، وفضحت جرائم الاحتلال طوال خمسة وعشرين عاماً كمراسلة لشبكة «الجزيرة»، وقبلها كمراسلة لإذاعة «مونت كارلو»، واصلت محاكمة المجرمين، حتى وهي مسجّاة في التابوت.
كانت شيرين قد أصرّت على مواصلة دورها في كشف جرائم الاحتلال خلال فعاليات إحياء ذكرى النكبة، عَبر تقرير كانت أعدّته مسبقاً وكأنّها كانت تشعر باقتراب لحظة فراقها.
استشهاد شيرين، أحدث انتفاضة سياسية ودبلوماسية وشعبية دولية إذ لم يبق مسؤول يحترم نفسه، في هذا العالم إلّا وعبّر عن إدانته وصدمته، وطالب بتحقيق شفّاف وعادل وسريع للكشف عن مرتكبي الجريمة.
الخطاب الدولي مختلف هذه المرّة، بما في ذلك بيان مجلس الأمن الدولي، إذ إنه يتضمّن عدا الإدانة والاستنكار، مطالبة بالمساءلة والمحاسبة، وذلك مؤشّر على مرحلة تعني أن إسرائيل لم تعد بمأمن من العقاب والحساب.
من الواضح أنّ الانتفاضة الدولية، تتجاوز حدود جريمة الاغتيال، وتتجاوز حدود التعاطف، فلقد وضعت شيرين العالم أمام أزمته الأخلاقية، حيث يمارس سياسة الكَيْل بمكيالين.
الخطاب الإنساني والحقوقي والديمقراطي، الذي يغلّف سياسات الدول الغربية، إزاء ما يجري في أوكرانيا، لم يعد قادراً على مواصلة التواطؤ مع جرائم مكتملة يمارسها الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني.
الصمت على جرائم إسرائيل، أصبح بحدّ ذاته، جريمة، تحاسب عليها الحكومات، من قبل مجتمعاتها.
ولكن هل كان اغتيال شيرين حادثة أو جريمة معزولة حتى تمرّ بعد وقت، وتصبح خبراً؟، أم أن هذه الجريمة هي مؤشّر آخر بعد آلاف المؤشرّات، على أن القضية هي قضية دولة تمارس العنصرية، وتستهزئ بالقانون الدولي، وتمارس كل أشكال الإرهاب ضد الشعب الفلسطيني؟
بعد أكثر من خمس روايات تبريرية، وتحاول التهرّب من المسؤولية، تعود إسرائيل لتعلّق المسؤولية على جندي، لم يكن يعرف ماذا يفعل كمحاولة لتنفيس حالة الاحتقان، وإفقاد المطالبات بالتحقيق مضامينها، وفي الوقت ذاته، تخفيف المسؤولية عن ذلك الجندي.
العالم أدرك التزوير المتعمّد الذي تمارسه المستويات السياسية والأمنية في إسرائيل، وأدرك ذلك أصلاً قبل أن تعترف إسرائيل بمسؤولية الجندي عن ارتكاب الجريمة.
العنف الذي مارسته الشرطة، والجيش، والأجهزة الأمنية و»حرس الحدود» والخيّالة، خلال تشييع جثمان شيرين، جدّد وعمّق صدمة المجتمع الدولي، وكرّس الرسالة التي تقول، إن المشكلة ليست مشكلة جندي أو فرد وإنما هي مشكلة وأزمة دولة ونظام سياسي بأكمله.
يبقى السؤال حول إذا ما كان اغتيال شيرين قد فتح مرحلة جديدة، نحو تفعيل دور المجتمع الدولي في إنزال العقاب، ورفض ومكافحة العنصرية والفاشية الإسرائيلية؟