التطرف والعدمية والعنصرية الإسرائيلية بلغت أوجها في قانون القومية، القانون الذي حصر حق تقرير المصير على ارض فلسطين التاريخية بالإسرائيليين اليهود دون سواهم. وهو القانون الذي شطب حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وأغلق كل الأبواب أمام الحل السياسي لقضيته العادلة، وتعامل مع الصراع الفلسطيني/ الإسرائيلي كصراع غير قابل للحل.
كل التعامل الإسرائيلي في القضايا الكبيرة والصغيرة والتفصيلية الخاصة بالشعب الفلسطيني ينبثق من تلك السياسة الاستعمارية المتغطرسة. وعوضا عن رفض تلك السياسة المتناقضة مع القانون الدولي بكل فروعه، تعايش النظامان الدولي والعربي مع تلك السياسة، ومارسا أشكالا من الضغوط السياسية والاقتصادية على الشعب والحركة السياسية والسلطة تحت الاحتلال بما في ذلك تحريم البعض لمقاطعة دولة الاحتلال، وكأن النظامين سمحا للدولة المحتلة بالاستفراد بالشعب الفلسطيني والعمل على تفكيكه وإخضاعه باستخدام الترهيب والترغيب.
كان من المنطقي أن تترك العدمية والغطرسة الإسرائيلية استجابات فلسطينية متعددة، فلم يعد الاتجاه المركزي يتمتع بأغلبية تأييد، وقد ذهبت كل مساعيه ووعوده بالتوصل إلى حل سياسي أدراج الرياح، ولم يستطع إبطاء الزحف الاستيطاني عبر البؤر الجديدة ولا الحد من مضاعفة البناء في المستعمرات ولا الحيلولة دون القيام بإجراءات الهدم والتطهير العرقي، ولا الحد من غلواء الاستباحة الإسرائيلية للمدن والقرى والمخيمات وتحقيق مستوى من الأمن والأمان للناس. وما زاد الطين بلة ترافق ضعف الاتجاه الرسمي في مواجهة الاستباحة الإسرائيلية بضعف البناء الداخلي بما في ذلك تراجع الديمقراطية النسبية بشكل مطرد واستمرار الفساد السياسي والإداري والمالي.
ضمن هذه الشروط السياسية والبنيوية لا تستطيع السلطة احتكار استخدام العنف ولا إلزام الاتجاهات السياسية الأخرى بالنظام والقانون، ولا تستطيع إلزام المجتمع باتفاقاتها مع دولة الاحتلال، وبخاصة إلزام المكونات السياسية والمجتمعية بالتنسيق الأمني. بفعل ذلك تزعزعت شرعية السلطة والمنظمة المالكتين للشرعيتين الدولية والعربية. ولا شك في أن بقاء هذه السياسة على حالها سيؤدي إلى مزيد من تدهور العلاقة وصولا إلى الانهيار، ما لم يحدث تغيير ينهي استخدام دولة الاحتلال للسلطة كغطاء لتقويض الوجود الفلسطيني. التغييران اللذان من المفترض أن يحدثا. أولا: التمرد الصريح على مواصلة الاستيطان والاستباحة بوقف أو تعليق الاتفاقات مع دولة الاحتلال بما في ذلك وقف التنسيق الأمني. ثانيا: العودة للانتخابات التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني وإعادة ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني على أسس ديمقراطية. التغييران سيعززان المشترك الوطني والمجتمعي والدور، ولا يمكن مقارنة الجدوى السياسية والمعنوية بالخسارة التي قد تترتب على التغييرين المطلوبين.
لقد تركت العدمية والغطرسة الإسرائيلية تأثيرها على الجيل الشاب في المخيمات وبخاصة مخيم جنين وفي المناطق الشعبية في المدن والريف، الجيل الذي لا يعرف غير الاحتلال  والمعاناة والقمع والإذلال الإسرائيلي، ويعاني من بطالة وأزمة معيشية خانقة، ومن عجز التنظيمات واتحادات الشبيبة والنقابات من استيعاب طاقاتهم في العمل الوطني والجماهيري والعمل المنتج والإبداع. هؤلاء امتلكوا السلاح - مع أن طريقة امتلاكهم للسلاح إشكالية -، وانتزعوا زمام المبادرة بأيديهم وبمفهومهم وطريقتهم الخاصة بعيدا عن العقلانية والربح والخسارة والجدوى والقانون. هؤلاء اخترق بعضهم جدار الفصل العنصري ومارسوا الانتقام العشوائي، وتصدوا بالسلاح للاقتحامات الإسرائيلية لمخيمهم. وفي مناطق أخرى تصدوا لاعتداءات المستوطنين على البيوت والممتلكات والأشجار. هؤلاء يحظون بتعاطف المزاج العام الذي وفر لهم بيئة احتضان. صحيح أن هذه البيئة لم تتحول بعد إلى انتفاضة ضد الاحتلال، ولم يظهروا زخما جماهيريا إلا أثناء تشييع الشهداء، لا سيما جنازة الإعلامية شيرين أبو عاقلة.
إزاء ذلك لا تستطيع السلطة منعهم أو جمع سلاحهم من موقع عجزها عن تلبية ما يصبون إليه، ولا تستطيع التنظيمات استيعابهم في نضال منظم، والأسوأ أنها ركبت موجة التمرد الشبابي، بتبني أعمالهم وبالتحريض على المزيد من العمليات، مقدمة بذلك مستوى من الإفلاس السياسي والنضالي. وفي غياب دور المستوى الثقافي والأكاديمي، افتقد المقاومون الجدد للوعي والمعرفة التي تساعدهم في خوض نضال مجدٍ وفي اتباع أشكال النضال المتوائمة مع طبيعة الصراع الطويل والمعقد.
العدمية والغطرسة الإسرائيلية انعكست أيضا على قطاع غزة كقاعدة للمقاومة. كانت حركة حماس أول المتمردين على الغطرسة الإسرائيلية، وهي دائما تحاول تطوير قدراتها العسكرية على قاعدة أن دولة الاحتلال تزدري الضعفاء كما تفعل مع السلطة في الضفة الغربية. الجديد في الأمر أن المقاومة حاولت في حرب «سيف القدس» ربط ما يجري في القدس والضفة بقطاع غزة. وقد بدا هذا الموقف والسلوك في مواجهة فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية. وتعزز الربط بتهديد حركة الجهاد الإسلامي إطلاق الصواريخ على العمق الإسرائيلي إذا ما جرى تعريض حياة أبطال نفق الحرية لخطر الموت، وهددت بالقصف إذا ما جرت إعادة احتلال مخيم جنين واستباحته بالقوة.
كان الربط حاجة وطنية في غاية الأهمية، لكنه مورس من قبل حركة حماس بمستوى تكتيكي غلب عليه الطابع الدعاوي بعيدا عن تحويله إلى استراتيجية، على خلفية مساومة المحتلين على هدنة طويلة مقابل بقاء حكم «حماس» في القطاع وفصله عن الضفة لأمد طويل. المشكلة في قطاع غزة تكمن في عسكرة معزولة عن مشاركة المواطنين خدمة  لمصالحهم الوطنية والمدنية، وهذا يطرح من جهة أخرى دور المال السياسي في اتخاذ القرار ووضع الاستراتيجيات الوطنية. ما يجعل المقاومة المعارضة مأزومة أيضا. ولم تستطع ملء فراغ السلطة وتطوير استقطاب بديل لأوسلو.
وانعكست الغطرسة الإسرائيلية على الوسط الثقافي الأكاديمي، بإعادة طرح حلول سياسية واستراتيجيات غير حل الدولتين. البعض اعتبر أن حل الدولتين لم يعد ممكنا، والبعض الآخر أعاد طرح الدولة العلمانية على أراضي فلسطين التاريخية، وآخرون طرحوا الدولة الديمقراطية الواحدة، ودولة لكل مواطنيها.
ملخص القول، إن تعدد الاستقطابات له ما يسنده في الواقع بعد ردح من الفشل والإخفاق والمراوحة والتكرار. تعدد، لا يستطيع طرف فيه استيعاب الآخرين واستقطاب الأكثرية الشعبية من موقع الفشل. ولا يستطيع أي طرف فاشل ولا يملك حلا عمليا فرض فشله على الآخرين.
سنبقى في هذه المرحلة الانتقالية ما لم تتقدم الصفوف قوى سياسية تطرح الحل القابل للترجمة على ارض الواقع في المدى القريب والمتوسط، وتشكل لاحما بين المكونات، ما عدا ذلك سنبقى متفرقين دون استبعاد أن نتوحد في لحظة مواجهة، هبة القدس ـ الشيخ جراح وباب العامود والمسجد الأقصى وصد العدوان على غزة - أو كما توحدنا مع أبطال نفق الحرية ومع كل المقاومين، أفرادا وجماعات، وأخيرا كما توحدنا في جنازة شيرين أبو عاقلة من جنين إلى غزة إلى الشتات إلى القدس. إضاءات بددت عتمتنا بعض الشيء ودفعتنا نحو لحظة الحقيقة.