في المقال السابق قلنا، إن المشروع الصهيوني وقع في أخطاء تقديرية أدّت فيما أدّت إليه إلى ما يسمّى انسداد الأفق التاريخي لهذا المشروع.
لم يعد أمام هذا المشروع من حلول، وليست لديه أجوبة عن تلك المسائل التي تمثل في مجملها جوهر التهديد الوجودي والاستراتيجي لهذا المشروع.
أزمة المشروع الصهيوني، الآن ـ وهي أزمة ممتدة من طبيعة المشروع نفسه ـ هي في وصوله إلى الحدّ الذي بات متعذّراً عليه التراجع، وبات المضيّ قُدماً به وصفة جاهزة للانهيار.
وطالما أن نظام الحكم في إسرائيل قد أصبح يُجاهر ويعمل، بل ويسابق الزمن لفرض هذا المشروع على الأرض بقوة القمع والبطش وارتكاب الجرائم اليومية والمتواصلة، وسرقة الأرض والاستيلاء على مقدرات الفلسطينيين ونهبها، وحصار الفلسطينيين وتجويعهم، وطالما أنه لا يعترف لهم بأي حقوق سياسية أو طنية، وهو يعمل ليل نهار لتحويل حتى لقمة عيشهم إلى سيفٍ مسلّط على رقابهم لمقايضة هذه اللقمة بالتخلي عن حقوقهم وأهدافهم، وطالما أن كل مؤسسات الدولة الإسرائيلية العسكرية والأمنية أصبحت مكرّسة بالكامل لفرض «الحلّ» الإسرائيلي عليهم، وطالما أن هذا الحكم والحكومات التي تتمخض عنه تتحول يوماً بعد يوم إلى أعتى أشكال العنصرية والدكتاتورية، وأصبحت تحمي وتحتمي بالعصابات المسلّحة التي تجاهر بفاشيتها ـ فكراً وممارسةً ـ وتتشكل في إسرائيل تركيبة فكرية وثقافية وإعلامية، سياسية وعسكرية أمنية من التمييز والفصل العنصري، المندمج والملتحم مع تمددات غير مسبوقة للفاشية، والتي تجاوزت التسرب ووصلت إلى حدود التمكن من هذه التركيبة، فإن التراجع عن هذا النهج والمسار أصبح متعذّراً، إن لم نقل مستحيلاً.
هذه حرب طاحنة يخوضها المشروع الصهيوني ضد شعبنا في الضفة والقطاع والداخل والشتات، وكل الفروقات التي تبدو بين هذا النهج والمسار من جهة وتجمعات ومكونات شعبنا من جهةٍ أخرى ليست سوى فروقات مؤقتة أولاً، وهي فروقات في الدرجة، وليست في النوع ثانياً، وهي محكومة باعتبارات تكتيكية، داخلية أو خارجية ثالثاً، ولا تعود بالمطلق لأي اعتبارات مختلفة أو خاصة في فكر وممارسة ومواقف ومخططات مؤسسات الحكم حيالها.
ليس هذا كله فحسب، بل إن الديمقراطية الشكلية لنظام الحكم في إسرائيل فيما يتعلق بالإسرائيليين اليهود أنفسهم مرشحة قوية للاضمحلال والتلاشي عند درجة معينة من تفاقم أزمة المشروع الصهيوني، ناهيك عن أن قانون القومية يُخضع من الناحية العملية المباشرة شعبنا في الداخل الفلسطيني لهذا النظام المندمج.
فكيف سيتراجع المشروع الصهيوني؟ عمّ سيتراجع؟ فإن تراجع ـ على سبيل الافتراض النظري الخالص ـ ألا تصبح الحرب الداخلية الأهلية هي «الحلّ» المباشر، أو ستتحول هذه الحرب الداخلية إلى حتمية سياسية قد تنجم عنها هجرات إسرائيلية جماعية، أو تصدعات اجتماعية يستحيل السيطرة عليها؟
وكل «تراجعات» عن هذا النهج والمسار هي تكتيكية ومؤقتة تعكس صعوبات أو ظروفا أو مختنقات سياسية، وهي لم ولن تعكس تغيرات في طبيعة المشروع، أو منطلقاته وأهدافه.
لماذا سيختار هذا الحكم المندمج بين الفصل العنصري والفاشية السافرة والكامنة؟ لماذا سيختار التراجع طالما أن هذا التراجع سيؤدي إلى الاقتتال والتصدّع، وربما الانهيار؟
أقصد أن هذا المشروع بات مأزوماً بحيث تجاوز الأزمة السياسية، وتجاوز الصراع على هذا الشخص أو ذاك وتجاوز بمراحل إمكانية «البحث» عن حلول سياسية، وتجاوز مرة وإلى غير رجعة إمكانية الاعتراف بأي حقوق وطنية أو قومية أو سياسية، لكل الشعب الفلسطيني في فلسطين وخارجها.
لم يصل المأزق الذي تحول إلى أزمة بنيوية مركّبة وإلى تركيبة لا تدير ظهرها للشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية فقط، وإنما إلى العالم كله، وإلى دول الإقليم، وإلى كل مؤسسات الشرعية الدولية والقانون الدولي لولا الدعم الأميركي والعربي للمشروع الصهيوني وحمايته ورعايته.
لا نحتاج على هذا الصعيد، لا للأدلة ولا للبراهين، والأمر أعمق وأخطر من ازدواجية المعايير، وأبعد من مجرد عجز أو تخاذل، لأن الدعم الأميركي والغربي لهذا المشروع هو من طبيعة الدعم الذي ينبثق ليس من المصالح الغربية فقط، وإنما من الطبيعة الاستعمارية وأحياناً العنصرية لهذا الغرب، ولهذا فإن تخلّي هذا الغرب عن المشروع الصهيوني سيستحيل قبل وصول الغرب وتوصّله إلى قناعة راسخة بأن هذا المشروع وصل إلى نهايته الحتمية، ومن هنا بالذات بدأت تتسرب إلى دوائر القرار السياسي الغربي ببطء وعلى استحياء بأن على الغرب حماية إسرائيل من نفسها قبل فوات الأوان.
أعود، الآن، للتذكير بالمقال السابق عندما أوضحتُ في معرض تبيان الأخطاء الاستراتيجية القاتلة التي وقع بها المشروع الصهيوني.. أعود، الآن إلى الأخطاء الاستراتيجية التي وقعنا بها ارتباطاً بهذه الأخطاء التي وقع بها هذا المشروع.
عند الرجوع إلى تضحيات شعبنا وبطولاته في مقاومة المشروع الصهيوني على مدار قرن كامل من الكفاح الوطني وقعت الحركة الوطنية الفلسطينية في أخطاء قاتلة على كلا الجانبين:
جانب إدراك طبيعة المشروع الصهيوني من حيث جذرية وعدوانية وتوسعية هذا المشروع وعنصريته، وبالتالي طموحاته وأهدافه ومخططاته.
وجانب الارتباط العضوي الملتحم بالمشروع الغربي الشامل، وبالإمبريالية البريطانية ثم الأميركية لاحقاً.
وبالعودة إلى الهبّات والانتفاضات الوطنية ومفاصلها الرئيسة فإن هاتين المسألتين بالذات كانتا نقطة أو نقطتي الضعف الأساسية لدى قيادات الشعب الفلسطيني عندما خُدعت تلك القيادات ـ أو هي كانت تراهن على التصالح مع المشروع أو التفريق ما بين المشروع وحماته ورعاته من جانب الغرب.
هكذا حصل بُعيد ثورة البراق، وهكذا حصل في الـ»36»، وهكذا حصل مع الارتهان لجيش الإنقاذ، وفي الخذلان الذي تعرض له القائد الوطني الكبير عبد القادر الحسيني.
وقد تكرر هذا الواقع وهذا الفهم والسلوك في مراحل لاحقة من انطلاق الثورة المعاصرة، ومروراً باتفاقيات أوسلو وإلى يومنا هذا.
صحيح أن الخلل الهائل في ميزان القوى ربما يفسّر بعض هذه الأخطاء القاتلة في استراتيجيات وسياسات الحركة الوطنية الفلسطينية، وصحيح أن صعوبة فصل الواقع الفلسطيني عن المحيط العربي الخاضع للسطوة الغربية.
ربما بدوره، أيضاً، ساهم بتلك الأخطاء، إلّا أنّ الصحيح كذلك، وربما قبل كل شيء أن نمط القيادات الوطنية الفلسطينية، وأحياناً مفاهيمها ومصالحها، أيضاً، قد أسهم بصورة جوهرية في تلك الأخطاء.
المشروع الصهيوني ليس لديه متّسع لحل سياسي يقوم على الاعتراف، حتى ولو بالحدود الدنيا بالحقوق الوطنية الفلسطينية، ولن تعترف إسرائيل بهذه الحقوق ما دامت الدولة الإسرائيلية مؤسسة على المشروع الصهيوني. ولهذا فإن أي عمل سياسي، وجهد سياسي مع المجتمع الإسرائيلي، ومع المحيط الإقليمي والدولي بما فيها مؤسسات الشرعية الدولية والقانون الدولي لا تقوم على قاعدة فك الارتباط بين دولة إسرائيل والمشروع الصهيوني لن تؤدي سوى لتكريس وخدمة هذا المشروع بصرف النظر عن النوايا، وعن الاعتبارات المختلفة.
وكل حل سياسي قائم على رعاية وحماية ووصاية وهيمنة الولايات المتحدة والغرب والتحكم به هو حلّ وهمي خادع وكاذب ومزيّف.
أما كل سياسة فلسطينية قائمة على مراجعة هاتين المسألتين، واشتقاق البرنامج السياسي الوطني من على أساسهما بالذات فهي السياسة الوحيدة التي من شأنها تحقيق الانتصار، وليس منع الهزيمة فقط.
إذا كان المشروع الصهيوني قد فشل في هزيمتنا ونحن دون بنية سياسية وكيان وطني، ودون محيط عربي داعم، ودون ظهير دولي، ولم يتمكن من هزيمتنا عندما كان يُنظر إليه «كحركة تحرّر»، وكواحة للديمقراطية في الشرق الأوسط، فهل سيتمكن من ذلك الآن، وقد تحوّلت إسرائيل إلى دولة للعنصرية والعدوانية السافرة والفاشية السياسية والدينية؟
مسألة هزيمتنا أصبحت خلفنا، ومسألة الانتصار حتمية، لكن السؤال هو: متى سننتصر، وكيف وبأي ثمن؟
هذا هو الجواب الذي ينتظره الشعب الفلسطيني في ذكرى النكبة.