مع عودة الحديث في إسرائيل عن احتمال سقوط هذا الائتلاف، إما بسحب الثقة أو بحلّ الكنيست يعود السؤال للمرّة الألف: ماذا بعد؟
وماذا لو سقط هذا الائتلاف وجاء ائتلاف جديد، فما الذي سيحمله هذا الائتلاف الجديد؟ وإذا ما تمّ حلّ الكنيست، وذهب المجتمع الإسرائيلي إلى انتخابات جديدة خامسة أو حتى سادسة أو سابعة، فما الذي سيتغيّر؟ وهل ستتغيّر الائتلافات والاصطفافات، وإذا ما تغيّرت فهل ستحلّ أزمة الحكم في إسرائيل؟ وإذا لم تحلّ أزمة الحكم في إسرائيل من خلال انتخابات جديدة فما هو الحل، وإلى أين تسير الدولة الإسرائيلية؟
والسؤال الذي يلي كل هذه الأسئلة:
هل يوجد «حلّ» حقيقي لكل هذه الأزمات؟ بمعنى، هل توجد مخارج حقيقية من هذه الأزمات يمكن أن تفضي إلى «عودة» المجتمع الإسرائيلي، والحالة السياسية في إسرائيل إلى مستويات طبيعية أو ما شابه من الاستقرار، أو ما شابه من تداول السلطة فيها؟
حتى الآن يتهرّب المجتمع السياسي، بما في ذلك النخب السياسية الفلسطينية في الداخل من الإجابة عن هذه الأسئلة، وذلك تجنّباً ـ على ما يبدو ـ للغوص في متاهات ما بعد الإجابة عنها، والتبعات التي ستترتب على هذه الإجابة.
الذي بات واضحاً، والذي لم يعد حوله خلافات أو اختلافات جوهرية هو أن الانتخابات لن تحلّ أزمة الائتلافات والاصطفافات، وأن التبدّلات والتغييرات في تموضعات، وفي تحالفات القوى السياسية الإسرائيلية في شقها «اليهودي» لن «تحلّ» أزمة الحكم في إسرائيل.
كما بات واضحاً، أيضاً، أن الحكم في إسرائيل (كما هو حال المجتمع الإسرائيلي)، وفي العقد الأخير تحديداً أصبح حكماً يمينياً متطرفاً «قومياً» ودينياً، وأنه بات نظاماً سافراً للفصل العنصري مندمجاً مع انتقالات حقيقية بتسارع تدهوري مع الكثير الكثير من المظاهر الفاشية.
وأما الأكثر خطراً في وضوحه فهو قبول وتقبل معسكر الوسط الذي ما زال يحتفظ لنفسه ببعض التأثير، وكذلك ما يسمى معسكر اليسار، والذي يفقد مثل هذا التأثير تباعاً بالبرنامج العنصري للحكم في إسرائيل، والانخراط في خططه ومخططاته، دون أيّ «مقاومة» تذكر، أو حتى دون أي تحفظات يعتدّ بها أو يعوّل عليها.
هذا التحوّل في طبيعة نظام الحكم في إسرائيل بات، وللمرّة الأولى يطرح على الجماهير الفلسطينية في الداخل، وهذا ما نحاول توضيحه في هذا المقال، رؤى جديدة، بمسؤولية كبيرة، وبتحديات فكرية وسياسية عميقة.
النضال البرلماني، أو استخدام الهامش البرلماني في النظام الديمقراطي، بصرف النظر عن عمق المحتوى الديمقراطي لهذا النظام، وشكليته الكبيرة أو الصغيرة هو نضال مشروع كما نعرف، طالما أنه يوفّر الفرصة لتعرية الاضطهاد والظلم اللذين تتعرض لهما الجماهير، سواء كان هذا الظلم والاضطهاد قومياً أو طبقياً اجتماعياً، أو دينياً أو غيره من أشكال هذا الظلم.
بعد إقرار قانون القومية في إسرائيل لم يعد هذا الشكل من النضال من «مُسلّمات» العمل السياسي، وهو لم يكن كذلك بالمطلق في أي يومٍ من الأيام، وأصبح الحوار حول هذه المسألة بالذات ضرورياً ومشروعاً وملحّاً أكثر من أي وقتٍ مضى، وأصبح مطلوباً حتى لا تتشتت الجهود والقوى والطاقات خارج دائرة الاستهداف المحددة للجماهير العربية الفلسطينية في الداخل الفلسطيني.
فعندما تتوافق التركيبة السياسية لنظام الحكم في إسرائيل على اعتبار هذا القانون كقانون أساس، و»تُنتزع» عن الجماهير العربية الفلسطينية «شرعية» الوجود، وتتحوّل من دائرة الوجود إلى دائرة «التواجد»، أي من دائرة الشرعية إلى دائرة «الأمر الواقع»، وعندما تحرم هذه الجماهير من الحق الطبيعي والقانوني، باعتبارها، أي الجماهير العربية الفلسطينية، صاحبة الأرض والوجود الأصلاني في هذه البلاد من حق تقرير المصير تتحوّل المسألة موضوعيا من مسألة انتخابات واصطفافات وتموضعات سياسية إلى مسألة تتعلق بنظام حكم، وبمشروع قائم ليس فقط على تبعات الاقتلاع والتهجير التي انطوت عليها النكبة الفلسطينية، وإنما على «شرعنة» استكمالها ـ أي النكبة ـ و»شرعنة» تجسيد الحق بتقرير المصير للجهة الحصرية المحددة في قانون القومية.
اقصد أن ما كان مشروعاً أو ممكناً، أو ضرورياً، أو فرصةً، أو هامشاً متاحاً ما قبل إقرار قانون القومية، لم يعد له من حيث الجوهر ومن حيث المبدأ نفس الأهمية، ولا نفس المفهوم، ولم تعد المسألة برمّتها تتعلق لا بالفضح ولا بالتعرية، ولم تعد وسيلة من وسائل التوعية والتربية، بل ولم تعد ـ على ما يبدو ـ تحمل في طيّاتها أيّ شكل من أشكال تحسين ظروف معيشة هذه الجماهير إلّا بالقدر الذي يحتاجه نظام الحكم في إسرائيل لتعزيز وتكريس المحتوى السياسي الجديد لهذا النظام، والقائم في جوهره، وفي مظهره مؤخّراً على منظومة متكاملة من الفصل العنصري والتمييز والاستعلاء والهيمنة القومية كسمةٍ ثابتة من سمات الفاشية.
وإذا عدنا بالذاكرة قليلاً إلى الوراء نستطيع أن نتبين الأمر بوضوح أكبر.
عندما بدأ اليمين الإسرائيلي يستشعر انتقال دور الجماهير الفلسطينية في الداخل من دائرة الفضح والتعرية لنظام الحكم في إسرائيل إلى دائرة التأثير والتغيير (من خلال الانتخابات ومن خلال مؤسسة الكنيست) بادر هذا اليمين إلى رفع نسبة التمثيل، وكانت النتيجة معاكسة تماماً لمخططاته، وتشكّلت «القائمة المشتركة»، وبدأ فعلياً ازدياد هذا التأثير.
مع فشل هذه المحاولة لجأ نظام الحكم في إسرائيل إلى شقّ صفوف هذه القائمة وتشتيت قواها، وتمكن بعد انشقاق «الموحدة» عن «المشتركة» من تشكيل الائتلاف القائم، والذي يترنّح، اليوم، كما نعرف ويهتزّ ويتراقص وتميد الأرض من تحت أقدامه بالرغم من «استماتة» «القائمة الموحدة» للإبقاء عليه، لكن هذا النظام أصبح يقبل ويتقبّل «الاعتماد» أو المراهنة على «العرب» بعد أن حسم الأمر بقانون القومية، وأصبح الموضوع المطلبي والمعيشي هو الوريث «الشرعي» الوحيد للحقوق القومية، وتحول هذا المطلبي إلى «البديل» المقبول والصيغة الوحيدة التي يمكن الاستفادة منها، والتلاعب بها بكل إذلال ومهانة وذيلية يندى لها الجبين، في ضوء أن محصّلتها «المطلبية» مخجلة تماماً.
دون إسقاط قانون القومية يبدو أن النضال البرلماني سيتحول إلى أحد الأعباء الثقيلة والأحمال الزائدة على المشروع الوطني والتحرّري الفلسطيني كلّه، وعلى الحقوق القومية للجماهير الفلسطينية في الداخل.
ليس هذا فحسب، بل أدّعي هنا أن شكوكاً عميقة بدأت تتسرّب إلى جماهير شعبنا في الداخل في ضوء قمع إسرائيل هبّة الكرامة بعد أحداث الشيخ جرّاح حول جدوى هذا الشكل من النضال، وخطر «تحوّله» إلى غطاء تتستّر به للإبقاء على المظهر الشكلي للديمقراطية الإسرائيلية من جهة وإلى آلية سياسية لتنفيس الاحتقان القومي، وفي «التصدّي» الإسرائيلي، لما باتت توصم به دولياً باعتبارها دولة تمارس التمييز العنصري.
قيادة الجماهير العربية الفلسطينية هي الأدرى، وهي صاحبة الباع الطويل في الكفاح، وفي التصدي للعنصرية والعدوانية، وهي التي حملت راية الحقوق القومية وإنهاء الاحتلال، وهي التي تعرف كيف عليها أن تجابه هذه التحديات الجديدة، وكيف عليها أن تجيب عن أسئلة المرحلة، مع أن وحدة شعبنا باتت تتطلّب حوارات عميقة حول كيفيات تجسيد هذه الوحدة في ظل اختلافات وفروقات ظروف المكونات الرئيسة للشعب الفلسطيني، وكيفيات إيجاد التناغم والانسجام ما بين هذه المكوّنات.
كلّنا بتنا على قناعةٍ باستحالة التعايش مع المشروع الصهيوني ونظام الحكم الذي يجسّده، والآن، الائتلافات الحكومية لهذا النظام، أيضاً، وهذا هو هدف هذا المقال.