يمكن القول، إن يوم الأحد، أول من أمس، قد مر دون ما هو أسوأ، أي دون اندلاع حرب مواجهة طاحنة وشاملة فلسطينية ــ إسرائيلية، رغم أنه لم يمر دون أن تقوم حكومة الاحتلال الإسرائيلية وقطعان مستوطنيها بممارسة ما كانوا قد أعلنوا عنه قبل وقت من استفزاز لمشاعر الفلسطينيين، بتسيير ما يسمونه مسيرة الأعلام، داخل أسوار مدينة القدس القديمة، لكن ما حصل وما منع وقوع ما هو أسوأ، كان بمثابة نقطة تعادل في صراع الإرادات بين الطرفين، فقد نفذ الجانب الإسرائيلي المسيرة بشكل عام، فيما فرض الجانب الفلسطيني، ألا تتجاوز الحدود الفجة، أو الخطوط الحمراء باستباحة ساحات الحرم، كذلك باختصار مسارها إلى أقصر مدى ممكن، والأهم أن الجانب الفلسطيني، الذي أبدى رباطة جأش وبأس معتمدا على المرابطين في القدس أولا، وعلى التهديد من غزة، الذي شكّل رادعا نفسيا على الأقل للجانب الإسرائيلي، فاجأ الجميع بابتكاره الفعل المضاد، وهو الرد على رفع الأعلام الإسرائيلية برفع الأعلام الفلسطينية.  
مع ذلك، فإن الحدث لا يمكن له أن يمر دون قراءة تتوقف عند حدود ما تمخض عنه من رسائل، لا بد أن تهم كل المعنيين بالصراع في الشرق الأوسط، وفي القلب منه الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وأول ما يمكن ملاحظته، هو أن حكومة بينيت ـ لابيد - غانتس ليست محايدة فيما يخص كل ما أقدم عليه المتطرفون الإسرائيليون من مستوطنين ومتدينين، سواء خلال شهر رمضان أو بعده، وسواء في القدس أو في عموم مدن وقرى الضفة الغربية، بل إنها ــ أي الحكومة الإسرائيلية، تبدو متوافقة تماما مع التطرف الميداني، وهي لا تقوم بحمايته ولا بتوفير كل السبل الممكنة لتسهيل مهمته، بدافع الظفر بأصوات المستوطنين وجماعات التطرف الديني، ولا التزاما بحماية ما تدعيه من الحق في ممارسة الشعائر الدينية أو التعبير عن الرأي والتظاهر، ولو كان الأمر كذلك لسمحت بالمقابل للفلسطينيين بتنفيذ تظاهراتهم السلمية، أو حتى بتشييع شهدائهم كما يليق بالجنازات، لكنها تفعل ما تفعله بقناعة تامة، فهي تبدو كما لو كانت جماعة استيطانية.  
المختلف الجوهري هذه المرة، أي في مسيرة الأعلام عن ممارسة الشعائر التلمودية فيما يسمى عيد الفصح اليهودي، هو أن مسيرة الأعلام ليست احتفالا بعيد أو مناسبة دينية، بل بما يسمى توحيد القدس، أي بذكرى احتلالها في السابع من حزيران من العام 1967، وقد جاء قبل نحو أسبوع بسبب التقويم اليهودي، أي أن الحكومة الإسرائيلية ومتطرفيها من المستوطنين يحتفلون بذكرى احتلالهم ويرفعون الأعلام الإسرائيلية في محاولة لفرض السيادة الإسرائيلية على المدينة المحتلة، وفي حقيقة الأمر فإن حكومة بينيت المتطرفة الاحتلالية والعنصرية لم تكتف بأن يقتصر رفع الأعلام على مدن إسرائيل بما فيها القدس الغربية، لكنها سعت إلى أن يشمل رفع أعلامها فوق المدن الفلسطينية المحتلة بما فيها قطاع غزة عبر الطائرات وحتى مدينة اللد!
لذا، فإن مسيرة الأعلام الإسرائيلية فهمت بشكل تام من قبل الجانب الفلسطيني وعلى كل مستوياته على أنها مناسبة لتكريس الاحتلال، وكأنها تعبر عن برنامج الحكومة اليمينية المتطرفة، التي ترفض التفاوض وحل الدولتين، وتسعى إلى «تهويد القدس» و»أسرلة» الأرض الفلسطينية المحتلة، لمنع إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على ترابها الوطني.  
وهذا بالضبط ما دفع الشعب الفلسطيني المعتاد إلى ابتكار أدوات مقاومة شعبية جديدة، حيث اصطف المرابطون في حرم المسجد الأقصى للتكبير والتهليل والصلاة، فيما اندفع المواطنون الفلسطينيون في مدن الضفة والقطاع إلى الرد على مسيرة الأعلام الإسرائيلية برفع الأعلام الفلسطينية، في إثبات ميداني على أن صراع الإرادات لم ينته وما زال قائما، وأن إرادة الاحتلال ممثلة برفع المستوطنين للأعلام بحماية جيش وشرطة الاحتلال تواجه بإرادة المقاومة الشعبية برفع العلم الفلسطيني في كل الفضاء الفلسطيني المحتل، وكانت ذروة التحدي حين نجحت مسيرة «درون» في التحليق فوق رؤوس المحتلين محلقة بالعلم الفلسطيني، ما دب في قلوبهم الرعب، وأسقط في أيديهم، في تأكيد على أن إرادة التحرير تواجه وتقاوم إرادة الاحتلال، طالما بقي الاحتلال، وإلى حين زواله.
وبتقديرنا، فإن الرد من جنس العمل، وعلى نفسها جنت براقش، فبعد أيام، يحين موعد الذكرى الخامسة والخمسين لاحتلال القدس والضفة الغربية وقطاع غزة المحرر نسبيا وفق التقويم العالمي الميلادي، لذا، فإنه من حق، بل وواجب على الشعب الفلسطيني، أن يرد بمسيرات أعلام فلسطينية تجوب كل شبر من أرض دولة فلسطين المحتلة، ترفع فيها الأعلام الفلسطينية تأكيدا على خيار التحرر والانعتاق من ربقة الاحتلال البغيض، بما في ذلك داخل أسوار المدينة المقدسة عاصمة دولة فلسطين الأبدية، وقد آن الأوان لتعميم درس  التحول من الدفاع إلى الهجوم، فما دامت حكومة إسرائيل قد أخرجت من عقلها فكرة الحل السياسي، فإن الحل الميداني بات هو الحل الممكن والواجب.  
ومقاومة الاحتلال تبدأ برد الاعتداءات اليومية بالتصدي لها وإفشال أهدافها المباشرة،   والشعب الفلسطيني الذي يعتبر، اليوم، هو عراب المقاومة في العالم، حيث ليس هناك من استعمار صريح ومتواصل مثل الاستعمار الإسرائيلي، يمكنه أن يجترح ويبتكر الوسائل الناجعة لتحقيق النصر والهدف المتمثل بطرد الاحتلال، الذي طالما بقي ستبقى معه حالة التوتر الميداني، والاحتكاك والصراع قائمة، حيث لا يمكن أن يتعايش العدل مع الظلم ولا الحق مع الباطل، فالقصة تتجاوز حدودها هنا وهناك، كما أنها تأخذ شكلا دينيا هنا أو هناك، لكنها تبقى صراعا سياسيا بين إرادتي الاحتلال ومقاومته.  
ولا بد أن تنصر إرادة الشعوب في نهاية المطاف، وما دامت إسرائيل قد نسيت كل مفاتيح السلام السابقة التي تدرجت من شعار «الأرض مقابل السلام» إلى حل الدولتين لدرجة أن تحاول فرض التهويد على القدس والأسرلة على الأرض الفلسطينية، فإن ذلك يعني بكل بساطة، بأن رد الفعل الفلسطيني عليه أن يفتح كل جبهات المقاومة السياسية، الدبلوماسية والميدانية، لتحقيق هدف وحيد وواضح، هو إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية كاملة، وفي المقدمة منها القدس الشرقية بأسوارها القديمة، بمسجدها الأقصى وقبة الصخرة وكنيسة القيامة.