كتب رئيس التحرير: من الطبيعي أن يرفع المتفاوضون سقف مطالبهم وهم على طاولة المفاوضات، حتى يحافظوا على مسافة مناورة لا تمس الخطوط الحمراء لهم في حال الإقدام على تنازلات.
هذه القاعدة "العرفية" إن صح التعبير في المفاوضات تنسحب كذلك على العلاقات بين الدول المتخاصمة، أو بين المحتل والشعب الواقع تحت الاحتلال، فكلاهما يقدمون مطالب متعددة، وسقفاً عالياً، وبناء على قوة كلّ منهم تحدث التنازلات وقبولها أو رفضها.
أما الحالة الفلسطينية فهي "طفرة" في الصعيد الدبلوماسي أو السياسي، أو قُل طريقة تعامل السياسيين مع هذه الحالة هو الأمر "الغريب" والذي لا يجد ما يفسره "سياسياً" أو "دبلوماسياً" في أحيان كثيرة.
في الوضع الفلسطيني الحالي لا وجود لطاولة مفاوضات مع الاحتلال الإسرائيلي، لذلك فإن الفلسطينيين اليوم يحاولون رفع سقف "تهديداتهم" لتحريك العملية السياسية، هذا الرفع الذي وصل إلى حد التلويح بـ"إلغاء أو تجميد الاعتراف بإسرائيل".
تكرر هذا التهديد كثيراً وصار قراراً للمجلس المركزي لمنظمة التحرير عام 2015 إلا أن كثرة ترداده دون تطبيقه جعله أمراً عابراً لا يؤثر في الشارع الفلسطيني أو الإسرائيلي أو الدولي، فلو أطلق هذا التهديد أثناء الاجتياح أو الانتفاضة لكان له وقع آخر، أما الآن وقد تكرر بعدد أيام السنة فإن صداه ضعُف وصار أمراً "عادياً".
يتلقى السياسيون الإسرائيليون هذا التهديد بمشاعر باردة جداً، فهو لا يؤثر شيئاً على دولة الاحتلال، وهو أداة لنحر مؤسسات منظمة التحرير والتي من بينها السلطة الفلسطينية، فقط، دون الإضرار بالاحتلال أو جعله يدفع الثمن، وذلك لعدة أسباب.
أهم الأسباب التي تدفع إسرائيل إلى عدم الخوف من هذا "التهديد" علمها اليقين أن السلطة لن تقدم على هذه الخطوة أصلاً، وأن ما يحدث مجرد "صرخة في بئر".
سبب آخر هو وجود بديل شبه جاهز عن منظمة التحرير، والتي سعت تل أبيب كثيراً إلى إنهائها وإعدامها وإزالتها عن الوجود، فالتيارات الكثيرة سواء في قطاع غزة أو داخل الضفة الغربية ربما تقبل أن تكون بديلاً عن المنظمة، لتملأ الفراغ الذي قد يحدث لهذا الهيكل "الطاعن في السن"، والذي لم تتجدد دماؤه منذ عقود.
كذلك فإن اطمئنان تل أبيب نابع من أن قضية التنسيق الأمني لم تعد مهمة جداً حالياً في الضفة الغربية، فالضفة الآن غير الضفة عام 2000 أو 2005، والأجهزة الأمنية الآن غير الأجهزة عام 2008 و 2010، إذ أن الضفة مخترقة بأدوات تجسس بشرية وتكنولوجيا فائقة التطور وكاميرات ترصد كل شيء، والأجهزة الأمنية ليست بالقوة التي تستطيع فيه رصد وضبط السلاح أو الفلتان أو أي مظاهر أخرى، وهذا ما صرح به الجيش الإسرائيلي، وهذا ما يحدث على أرض الواقع في بعض المدن والمخيمات، التي يحاول الأمن الفلسطيني عدم الاحتكاك بمسلحيها.
تل أبيب أصلاً وضمنياً لا تعترف بمنظمة التحرير أو السلطة أو الدولة أو اتفاق أوسلو، هي لا تطبق ولم تطبق شيئاً من هذا الاتفاق المرحلي الذي انتهى أصلاً عام 1999، فهو كان اتفاقاً مرحلياً لـ 6 سنوات، وانتهت عام 1999، هو اتفاق ميت، لكن حتى الآن لم تصدر شهادة وفاته، ولا تقدم هذه الشهادة أو تؤخر في حقيقة موته!
المكاسب التي قد تحصدها تل أبيب من إلغاء الاعتراف بها من قبل منظمة التحرير تفوق بأضعاف مخاسرها، والمخاسر التي سيسببها هذا القرار للفلسطينيين أضعاف أضعاف ما قد يحققونه من مكاسب، فخذوا مثلاً: لم الشمل والهويات وجوازات السفر والمؤسسات الفلسطينية والمناهج وكل شيء سيصبح في يد تل أبيب بشكل مباشر وعلني.
هل الحل أن نظل تحت رحمة تل أبيب؟
من المؤكد أن الجواب على هذا التساؤل هو (لا)، لكن كيف نوجع إسرائيل؟ وكيف نجعل من خياراتنا وتحركاتنا أمراً رادعاً؟
لا يمكن للفلسطينيين وقراراتهم أن تكون ذات جدوى أو صدى محلي أو إقليمي أو دولي إلا يوم تتوحد كلمتهم ويكون قراراهم بالإجماع، عندها ستتجه عيون كل العالم إلينا، وسنصبح بصوت أعلى، ومهابة أكبر، أما مع استمرار الانقسام الداخلي فإن كل تحركاتنا ستظل في صندوق مغلق.
الوحدة الفلسطينية ستكون أول مرد مؤلم على جرائم الاحتلال، فعندها ستتكامل العملية السياسية مع البندقية ومع المقاومة الشعبية، وسيصبح الرد الفلسطيني مؤلماً على كل جريمة إسرائيلية.
الرد على تل أبيب يكمن في تمتين مؤسساتنا وتنظيفها من الفساد ودمج الشباب وإتاحة الحرية السياسية في الضفة الغربية وقطاع غزة، الحل يكمن ميثاق شرف مُلزم للجميع بأن تكون المصلحة الفلسطينية هي الأسمى من كل التجاذبات والاصطفافات، وأن يكون علم فلسطين فوق كل الرايات.
بالوحدة وبناء المؤسسات سيجابه الفلسطينيون أعتى الجيوش، وسنجر اهتمام العالم جراً إلى المنطقة مجدداً، أما الاستجداء والتهديد فما عاد يجدي نفعاً، وهذا ما يقوله الواقع.