نكسة أو هزيمة، لم يعد هناك من يهتم، ونقصد من العرب أو غيرهم. هي نكبة ثانية، وقعت في الخامس من حزيران العام 1967، حيث أكملت إسرائيل احتلال كل أرض فلسطين التاريخية، بالإضافة إلى سيناء وأجزاء كبيرة من هضبة الجولان السورية.
لا مجال هنا لإلقاء اللوم، فلقد كان العرب للتوّ، قد حصلوا على استقلالاتهم الشكلية، فيما كان المشروع الصهيوني في أوج حيويته، يعمل على تحقيق المزيد من الإنجازات على طريق أهدافه الاستراتيجية الكبرى.
سبعة عشر عاماً تفصل بين نكسة حزيران 1967، والنكبة الأولى الكبرى العام 1948، تخلّل المسافة الزمنية عدوان ثلاثي بريطاني فرنسي إسرائيلي على مصر، التي لتوّها خرجت من النظام الملكي إلى النظام الجمهوري.
فشل العدوان الثلاثي، بالرغم من أن أربع سنوات على قيام ثورة الضبّاط الأحرار بقيادة الزعيم القومي جمال عبد الناصر، لم تكن كافية لإعادة بناء القوّة المصرية، بالقدر الذي يسمح لها بمواجهة تحدّيات العدوان والمشروع الصهيوني.
هنا نقف على بعض جذور الحاضر، حيث هبّ الشعب المصري لمواجهة العدوان الثلاثي، وقدم آلاف التضحيات التي تضاف إلى آلاف كثيرة ومنها الشعب المصري وجيشه الباسل خلال الحرب العربية في مواجهة التحالف البريطاني الصهيوني حتى وقوع النكبة الأولى.
ليس غريباً أبداً، أن تفشل إسرائيل، بالرغم من توقيع اتفاقيات «كامب ديفيد» في تحقيق أي مستوى من التطبيع مع المجتمع المصري الذي بقي صامداً في مواجهة الرواية الإسرائيلية.
شقيقه الشعب الأردني ولأسباب مشابهة فضلاً عن تركيبته الاجتماعية يستعصي على الخضوع لسياسات التطبيع، بالرغم من مرور ثمانية وعشرين عاماً على توقيع «اتفاقية عربة».
حين وقعت نكسة حزيران، لم يكن قد مضى على تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية سوى ثلاث سنوات، وسنتين فقط على انطلاقة الرصاصة الأولى العام 1967، على يد ثوّار حركة «فتح»، أما الشعب الفلسطيني، فقد كان ممزقاً، بلا هوية، أو قيادة، أو تطلعات سياسية، وباستثناء أن الفلسطينيين كانوا يحتفظون بالأمل ومفتاح الدار، وأوراق الطابو، فلقد بددت النكبة الثانية إلى حين الآمال بالنهوض القومي التحرّري العربي الذي حمل عبد الناصر لواءه.
كان أحد أهم أهداف العدوان الثلاثي العام 1956، وبعده حرب حزيران 1967، كسر مسار الثورة القومية التحررية التي قادها عبد الناصر، ومنع العرب من تحقيق نهضتهم القومية، فلقد كان الأخطر على المستعمرين، أن عبد الناصر استحوذ على قلوب الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج، ما يهدد المصالح المرتبطة بالأنظمة القبلية والمتخلّفة التي تركها الاستعمار في هذه المنطقة.
ومع انكسار مسار النهضة القومية التحررية، ووفاة قائدها تغير مجرى التاريخ في هذه المنطقة.
المظهر العام للحروب العربية الإسرائيلية قبل قيام الدولة العبرية وبعدها كان الجيوش، ولكن تلك الجيوش العربية، كانت ضعيفة التكوين والتسليح، بينما كانت الحركة الصهيونية وإسرائيل تحظى بدعم كامل وحماية من قبل الدول الاستعمارية الكبرى.
ينبغي ألا ينسى أحد، أن إسرائيل العام 1956، بدأت تبني مشروعها النووي بدعم من فرنسا.
جديد الحراك العربي التحرري، ظهر على شكل انعطافة نوعية، حين اندلعت الثورة الفلسطينية المسلحة المعاصرة، التي طرحت بديلاً للحروب الكلاسيكية وحروب الجيوش، استراتيجية حرب التحرير الشعبية طويلة الأمد.
هذا التحول لا يزال يحكم حركة الصراع، فلقد خرجت الجيوش الرسمية العربية من المعركة تماماً، وبقي عبء الصراع على القوى الشعبية التحررية مع انحسار وتراجع دور هذه القوى عربياً.
لكن الأهم في مسار تلك التغيرات الاستراتيجية أن الحركة الصهيونية، إثر احتلالها لكل أرض فلسطين التاريخية، تكون قد أكدت ما جاء في أدبياتها التي تعكس نزعة استعمارية توسعية، ولتأكيد ادعاءاتها فيما يسمى «يهودا والسامرة»، وخطاب «الهيكل» المزعوم في القدس.
ولكن وبذات القدر من الأهمية، كان اندلاع الثورة الفلسطينية المعاصرة بداية نهوض فلسطيني عارم، يقوم على فكرة، توحيد الشعب وتأكيد حضوره وفعاليته على أرض الواقع، وبلورة هويته الوطنية فضلاً عن تأكيد طلائعية النضال الفلسطيني، وتسلم الفلسطينيين زمام قرارهم ومستقبلهم.
حاولت الحركة الصهيونية على مدار العقود، تبديد الشعب الفلسطيني وهويته وعبر مشاريع التوطين المدعومة دولياً، دمجه في محيطه العربي الذي يتجانس معه، لكن تلك المخططات قد فشلت فشلاً ذريعاً.
لقد سمحت نكسة 1967، بظهور وتبلور المعادل الفلسطيني للحركة الصهيونية وأهدافها، ولم تنجح كل محاولات الأطراف المعادية في تغيير تلك المعادلة بالرغم من تهاون، وربما تعاون بعض أطراف النظام العربي الرسمي مع الأطراف المعادية.
محطات عديدة أظهر فيها النظام الرسمي العربي خضوعه للحملات الاستعمارية، وامتناعه عن دعم الثورة الفلسطينية، أم أن أحداً يمكن أن ينسى سياسات الأنظمة ومواقفها خلال الاجتياح الصهيوني للبنان العام 1982؟
بعد أربعة وسبعين عاماً على النكبة الأولى وخمسة وخمسين على الثانية، ها هو الشعب الفلسطيني يؤكد حضوره، وقوته، وقدرته على مجابهة المخططات الاستعمارية، في ظل أصعب الظروف العربية والإقليمية والدولية.
من في هذا العالم يجرؤ على إنكار وجود الشعب الفلسطيني، الذي فرض على الجميع الاهتمام بقضيته، التي ظن البعض أنها تراجعت أو اختفت، بين ملفات الأهداف الكبرى؟ قولوا ما تشاؤون في الأوضاع الفلسطينية، ولكن معادلة الصراع وطرفها الفينيق تتجذر على أرض الصراع.