لا متسع للحديث عن أزمة باتت تضع أمة بكاملها في مهب الريح نتاج بؤسها وفقرها الذي تشي به أي مقارنة في أي شيء، تقف بلا فخر في ذيل القائمة، تنكشف مع كل هزة دولية حتى لو بعيدة آلاف الكيلومترات لأنها لا تنتج الحد الأدنى من استهلاكها، حتى تقف عاجزة مذعورة من أن تعصف بها رياح صراعات ليست جزءا من توازناتها لأنها أقل شأناً من ذلك.
محزن وضع هذه الأمة التي كانت يوماً سيدة ذاتها قبل أن تفقد بريقها، وتبدو كمن شاخ ذاهباً نحو نهاية لا تليق بمجد كان يوماً يغلف تاريخها وحضارتها المنتشرة عميقاً في جبالها وعلى ضفاف أنهارها حيث أقامت المدنية واكتشفت الزراعة، كيف لمنطقة أحدثت ثورة هذا الاكتشاف أن تقف متسولة للقمح والغذاء، وكيف لأمة أقامت ما يكفي من المدن والقرى على ضفاف الأنهار أن تحول أنهارها إلى موجات من الدم لأن أبناءها ينشغلون منذ مئات السنين بصراعات السلطة التي لم تنته منذ قرون.
لا في العلوم ولا التكنولوجيا ولا الجيوش ولا الصناعة ولا الزراعة ولا الرياضة حتى ولا الثقافة، في كل شيء كأن الحاضر ينفصل عن الماضي أو كأنه الابن اللقيط لماض ترصع بحماسة الحضور الزاهي قبل أن ينشغل العرب بطحن ذاتهم منذ أن تشكلت الدولة كأنها كانت نقمة التاريخ العربي لتتحول تلك الدولة والحكم إلى مادة الصراع إلى يوم الدين،     ولتجعل من أبنائها وقوداً لمحرقة لن تنطفئ نارها بدل أن تجعل منهم سادة ومخدومين.
في الهلال الخصيب، ظهر القمح لأول مرة في التاريخ في القوس الممتد من فلسطين حتى العراق وهو القوس الذي يتضور جوعاً يا للمفارقة ...! من بغداد مروراً بسورية ولبنان الذي يقف على أبوب التسول، وفلسطين التي تقف استثناء باعتبار الاحتلال يمنع تحكمها بمواردها ويصادر أرضها، ولكن نمط الإدارة الذي يتقدم يبدو أنه امتداد للعقل العربي إذ يكفي مشهد الصراع الذي انفتح بين الإخوة الألداء تحت الاحتلال ليدلنا على مستقبل سيسجل حضوره في خارطة العجز والجوع والبؤس ويصطف في الطابور مع إخوانه العرب.
السؤال الذي سيظل حاضراً وكشفته أزمة الحرب الروسية: هل فعلاً يعجز العرب عن زراعة القمح وإطعام شعوبهم؟ في كل هذه المساحة الممتدة وبهذا المناخ الدافئ وكل تلك الأنهار والمياه ويستورد العرب قمحهم؟ وهو الذي لا يحتاج أي جهد فنحن لا نتحدث عن أشياء معقدة بل ربما يليق بزراعة بدائية؟ ما هذا؟ والمفارقة أن دول إنتاج القمح في العالم هي بلاد يغطيها الجليد لستة أشهر في العام وتعمل بنصف زمنها لكنها تطعم العالم وينتظر العرب على بواباتها، كيف يمكن فهم هذا العجز؟
هذا نموذج فقط لسلعة أساسية لا تحتاج لتكنولوجيا ولا علم، لكنه يكشف تماماً عمق الأزمة لأمة تتحضر لمجاعة قادمة. والغريب أننا لم نشهد تحولات واهتماما يذكر أو رغبة بالاستفادة من الأزمة بإعادة توجيه الإنتاج العربي الزراعي، نحو زراعة المواد الأساسية إذ يقف العرب ببلادة ساذجة بعيدة حتى عن الشعور بعمق الكارثة القادمة.
في الصناعة، ليس العرب أبعد من بدائية الزراعة، فهذا العالم الممتد من المحيط إلى الخليج لم يصنع سيارة حتى الآن، فهي ليست دولا صناعية ولا مجتمعات صناعية ولا مدنا بل إن ما هو قائم هو بلدات أو قرى تضخمت وظلت محافظة على نظام القرية أو القبيلة وبكل تفاصيلها، وفي هذا أحد أبرز أسباب التخلف القائم لأن الحياة السياسية التي حاولوا تقليدها قائمة على نظام القبيلة وأحزاب القبيلة وعقل القبيلة وانتجت ثقافة القبيلة.
ماذا ينقص العرب؟ ولماذا يتخلفون عن السباق الدولي في كل شيء وهو «سؤال المليون دولار» الذي أشغل مثقفي ومفكري العرب منذ تحرر هذه الدول من الاستعمار، وظهر منذ ستينيات القرن منذ أن تسلم العرب مصيرهم بعد أن زال الاستعمار من الكثير من دولهم ظهر مبكراً أن عمليات بناء الدول لم تكن بمستوى تاريخ شعوبها ولا تفتح على مستقبل لهذه الشعوب، بل يبدو أنها ستحكم عليهم بالفقر المؤبد وبالجوع وانعدام الحريات والدكتاتورية والخوف. تلك كانت مادة التفكير للمفكرين الذين تم القضاء عليهم إما بالسجن أو القتل أو التهجير أو التفكير والخروج من الملة ليسدل الستار على ذبابة سقراط مبكراً أو كلما حاولت أن تشير للجرح المفتوح.
الأزمة ليست في الموارد الطبيعية ولا الأرض ولا المياه ولا الأيدي العاملة ولا المناخ. فالقدماء البدائيون في هذه المنطقة أنتجوا ما يلزمهم وصنعوا اكتفاءهم بأقل الإمكانيات وهذا مخجل حين تمكنوا من صناعة حضارات هائلة ومن الزراعة والصناعة وإقامة القرى والمدن والفن والنحت والثقافة وحتى تصديرها. إذاً، المسألة في شيء آخر لا علاقة له بالطبيعة ولا علاقة له بالمؤامرة التي يستسهل بعض مثقفي النظم ترويجها لإعفاء نظمهم من المسؤولية، بل تتعلق بالمنظومة التي بنيت عليها الدول الحديثة والعقل الذي يقود الدولة والثقافة التي تعشش في وعي المجتمعات والفساد الذي يعتبر جزءا من تلك الثقافة ومحاربة التجديد والخروج عن التقليد. فالمفكرون العرب لم تقمعهم الدولة والنظام الذي كشفوا عيوبه بل وأيضاً كان للمجتمع دور في عزلهم وتكفيرهم ونبذهم لمجرد تفكيرهم خارج الثقافة السائدة.
كيف لكل هذه التجربة التاريخية التي تمددت على هذه البقعة من العالم أن تنتهي بكل هذا البؤس، قبائل تتقاتل لتقود شعوباً فقيرة وخزائن مديونة؟ وبلا قدرة على إطعام شعوبها. فكل العالم العربي فقير باستثناء الخليج ولولا النفط لكانت صحاريه الأكثر بؤساً بسبب قسوة المناخ، ولكنه فقير كإخوانه العرب في الزراعة والصناعة والديمقراطية وحقوق الإنسان والعلم والاختراعات وكل شيء ويصطف معهم في ذيل القائمة.
في العراق، يقيم نبوخذ نصر مأتماً لا ينتهي للأبناء، وفي سورية ينصب أبو علاء المعري خيمته لاستقبال المغربين بالوطن وبالمدن التي تفحّمت وفي فلسطين يطل بعل غاضبا وتتشح عناة بالسواد عما فعله الأبناء بأنفسهم وفي العالم العربي يخيم الحزن على أمة تصبغ تاريخها بالدم وحاضرها بالفشل والجوع ومستقبلها بالخوف .... أي أمة نحن؟
عودة للسؤال: ما الذي ينقص العرب ليكونوا كسائر الأمم؟ ينقصهم ثورة فكرية ثقافية وليس ثورات سياسية تطيح بنظام لتأتي بآخر ابنا شرعيا ووريثا لنفس الثقافة؟ فثورات العشرية السابقة عمقت من الأزمة وسحبتهم للوراء أكثر، تلك خلاصة التجربة الدامية، يحتاجون إلى عقل مختلف أما دون ذلك فالمستقبل أشد قتامة ...!