بتنا في فلسطين مجتمعاً استهلاكياً بامتياز نقترض ونراكم على أنفسنا ديوناً وفوائد وغرامات تأخير فقط للاستهلاك، فمن أجل جهاز هاتف نقال حديث أدفع فوق قدرتي الشرائية لألبي رغبة استهلاكية، وكذلك الحال مع المركبات والشقق والأفراح والمناسبات، هذه الثقافة ترسخت وتعمقت وبات لها منظروها ومروجوها.
ثقافة الاستهلاك مضادة للإنتاج، وهذا واضح تماماً لأن الأرض لم تعد تزرع، وبتنا نبتاع خبزَنا جاهزاً، وقفزنا باتجاه شراء طعامنا جاهزاً، ولم نعد نُعلي من شأن الإنتاج والعمل، الكل يقف في الطابور ينتظر أن يتوظف، وبعدها يريد أن يثبَّت لكي يحصل على قرض ويصبح من رواد أماكن الترفيه، وفي موسم الزيتون يتأفف من الموسم وأعبائه وتعبه، ويخرج بنظرية «ثلث لي وثلثين لمن تضمَّنَه وقطفه».
في مجتمع تحت الاحتلال والحصار المالي وعدوان المستوطنين لا يُعقل أن نرسخ قيم الاستهلاك التي تقلل من شأن الأرض التي هي محور القضية الوطنية، ولا يعقل ان ننشئ أطفالنا على قيم الترفيه وكل شيء ممكن، ولا نضرب لهم مثلاً حتى بزراعة نعنع وبقدونس على بلكونة المنزل، بل نطلب منهم ان يذهبوا ليُحضروها من المول المجاور بسعر مرتفع، لأننا نبرر ان الوقت ضيق فيتعود الطفل على الشيبسات والمُحليات دون تدقيق بقيمتها الغذائية، في حين تخلو المنازل من صينية هريسة او نمّورة.
تخيلوا معي هذا الواقع ونخرج في جمعية حماية المستهلك على الجمهور بدعوة ليكون الإثنين 27/6 يوماً دون شراء، فتقوم الدنيا ويُثار نقاش يعبر عن ثقافة الاستهلاك من عيار (نتسوق يوم الأحد هههه) و (ما الذي سيحدث هل ستؤثرون على الأسعار؟) و (كيف بدنا نعيش؟) و (حضرتكم شو بتعملوا؟).
لو أننا في العام 1987 إبان الانتفاضة الاولى وصدر بيان القيادة الوطنية الموحدة يفيد بإضراب يومَي الإثنين والثلاثاء، مقاطعة المنتجات الإسرائيلية، لتقوم اللجان الشعبية في الأحياء والقرى والمخيمات بزراعة الأراضي الخالية في محيطها، كانت الناس تستقبل هذه القرارات بحرارة، فلا تنام ليلتها الا وقد أنهت الترتيبات للزراعة في الأحياء، ولتمّت الاستعانة بكل من هو خبير ليعلّم الشباب والصبايا الزراعة والعناية بالمزروعات.
اليوم من يجابهك رائد في العمل الأهلي الذي يقول: انتزعت وسيطرت قيم الاستهلاك وبات الشعب موظفاً أو عاملاً في السوق الإسرائيلي وأخليت الأراضي وهُجرت، وانظر الى الطريق من رام الله الى نابلس، لا يوجد شيء مزروع والسلطة الوطنية الفلسطينية مظلة هذه القيم التي فتحت الباب للقروض. هذا تشخيص ولكنك يا رائد من رواد العمل الأهلي بتَّ جزءاً من المشكلة ولست جزءاً من الحل، فتفضل وقدم حلاً.
بكل هذا الواقع الذي يغرق فيه المجتمع للإنفاق على الأقل أهمية وفوق القدرة، وواقع وجود مجموعة عمل أهلي تُدين الواقع ولا تساهم بالتغيير، جاءت دعوة «يوم دون شراء» من أجل مواجهة التحدي الذي يواجهه المستهلك، وحتى يشعر المستهلك انه يستطيع، وحتى يشعر تاجر التجزئة انه ليس مستهدفاً بل ضحية مثلنا تماماً، وحتى نهز وعينا قليلاً لعلنا نرجع ليس الى ربع قرن مضى بل الى سنوات جائحة كوفيد-19 عندما عدنا للزراعة بالأشتال التي وزعتها علينا بلدية رام الله، ومن ثم وزعتها وزارة الزراعة عبر مشروع تخضير فلسطين، وتكافلنا وتضامنّا في إطار الأحياء والقرى والمخيمات.
باتت مجابهة الغلاء مهمة، سواء بأسبابه العالمية وارتفاعات الشحن أو بأسباب تراجع زراعة غذائنا واستيراده بالكامل وتراجع الإنتاجية، باتت المجابهة مهمة الجميع وبالتأكيد يجب أن يكون الرواد جمعية حماية المستهلك الفلسطيني ومعها الناس الغلابة، بأسلوب ليس تقليدياً بل بأسلوب إبداعي يساهم بالضغط على صناع القرار. إننا نعترض على غلاء لم نعد نستطيع أن نتعايش معه أو نغض البصر عنه.