لم يكتفِ حزب الله اللبناني بالتهديد والوعيد، كما هي عادة زعماء الشرق الأوسط، ولم يقف مكتوف اليدين إزاء محاولة إسرائيل فرض حقيقة الأمر الواقع، كحقيقة احتلالية على حقل «كاريش»، وفقط قام الحزب بإطلاق ثلاث مسيّرات باتجاه الحقل، ليحقق ما قال عنه بأنه الهدف من إطلاقها، وهو جمع المعلومات عما فعلته منصة التنقيب في الحقل، مع أننا نعتقد بأن الهدف الذي تحقق كان أبعد من ذلك بكثير، وانطوى على مغاز سياسية بالغة، نقرأ عنوانها في رد الفعل الإسرائيلي الذي ظهر على شكل الصدمة، بما يوحي بأن إسرائيل كانت في لحظة غفلة، كما كان حالها في عيد الغفران عام 1973، لحظة الانتقال بالحكم من نفتالي بينت الى يائير لابيد، أي لحظة الانتقال بالحكم من الحكومة البديلة الى الحكومة الانتقالية !
حاول الجيش الإسرائيلي التخفيف من وقع الصدمة بالقول بأنه كان على علم مسبق بنيّة حزب الله إطلاق المسيّرات الثلاث، لكن المراقبين ردوا بالقول، بأنه لو كان ذلك صحيحاً فكيف يمكن تفسير اقتراب المسيرات، حتى باتت على بعد أميال قليلة، من منصة التنقيب، فيما لم ينكر قادة أمنيون وعسكريون إسرائيليون سابقون، بأن حزب الله بإطلاقه المسيّرات خلق معادلة جديدة مع إسرائيل فيما يخص الجو، وأكثر من ذلك بأن تلك إنما هي البداية، وقد يعني ذلك تسخين جبهة الشمال.
المهم برأينا هو أن حزب الله، قد وضع حداً للمحاولة الإسرائيلية إخراج حقل كاريش من مفاوضات ترسيم الحدود، تلك المحاولة التي تجند لها كل من وزير الخارجية ووزير الدفاع ووزيرة الطاقة قبل أكثر من أسبوع، في مؤتمر صحافي، ركّزوا فيه على الادعاء بأن «كاريش» هو حقل إسرائيلي، أي خارج التفاوض مع لبنان، والجميع يعلم بأن إسرائيل تسابق الزمن، من أجل الحصول على كميات غاز ضخمة، تؤهلها للحلول مكان روسيا في تزويد أوروبا بالطاقة، وقد كان رد فعل يائير لابيد، كرئيس حكومة انتقالية، واضحاً، حين قال في أول تصريح له بأن حزب الله يمنع التوصل لاتفاقية مع لبنان، يقصد بالطبع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية، التي ستضع الفواصل بين ما يخص كل طرف من حقول الغاز الممتدة على الشاطئ الشرقي للمتوسط.
المفارقة تمثلت في كون إطلاق مسيّرات حزب الله باتجاه كاريش جاء في اليوم الأول للابيد كرئيس حكومة، بما بضع أمامه تحدياً حقيقياً، يظهر إسرائيل في ظل قيادته كدولة مرتبكة وعاجزة عن الرد المناسب، ذلك أن أي تسخين للجبهة الشمالية مع حزب الله، يرهق إسرائيل ويخلط أوراقها، بحرف بوصلتها عن تركيز الضغط على إيران الحليف الإستراتيجي للحزب اللبناني، ويضع العراقيل أمام محاولة إنجاح مهمة الرئيس الأميركي في زيارته للشرق الأوسط، التي تتمركز حول تعبيد الطريق أمام التطبيع بين إسرائيل والسعودية، وفتح الباب أمام «الناتو» الشرق أوسطي.
وفي الحقيقة فإن تولّي لابيد منصب رئاسة الحكومة وإن كان على هذا الشكل، من حيث كونه مؤقتاً، أي لبضعة أشهر، وأن الحكومة انتقالية، أي ليست كاملة الصلاحيات، لن يُظهر الرجل كمخلص لإسرائيل من حالة الارتباك وانعدام الوزن، وحتى انعدام الهوية السياسية، فهي تبدو دولة حائرة بين الشرق والغرب، ولا يقتصر ذلك على اتخاذها سياسة الحذر بين الغرب بقيادة الولايات المتحدة حليفها الإستراتيجي والتي قدمت وما زالت تقدم لها كل الدعم الذي أبقى على احتلالها، وعلى تفوقها العسكري والسياسي في المنطقة، وبين روسيا وحسب، بل هي تبقى في موقع الوسط حتى في علاقتها مع الصين ومع الهند، أي مع خصوم أميركا والغرب، وكذلك تبقي على علاقة مع تركيا، وفقط هي في حالة عداء مبالغ فيها مع إيران، الذي لا يُبدي الغرب ولا حتى الولايات المتحدة نفس الحدة الإسرائيلية في إظهار العداء لها، وذلك لأن إسرائيل تسعى لوضع أموال الخليج في جيبها، وبحجم منافس إقليمي.
وإسرائيل الحائرة والمرتبكة، مع حكم اليمين المتواصل، وانعدام تبادل الحكم منذ نحو عقد ونصف، لا تظهر كدولة ديمقراطية على شاكلة الغرب، بل تقترب شيئاً فشيئاً من جوهر دول الشرق الأوسط المستبدة، وهذا ما دفع « كوكتيل الأحزاب الثمانية» الى التوافق رغم كل ما يتخلله، من اختلافات سياسية وأيديولوجية للتوحد، من أجل إسقاط بنيامين نتنياهو فقط، وقد نجح في ذلك لمدة عام فقط، فيما يلوح الفشل في الأفق، باحتمال عودة نتنياهو للحكم، وإذا كان لابيد هو مهندس الحكومة البديلة، أي بديلة حكومات نتنياهو، فإن التضحية برئاسة الحكومة البديلة لصالح نفتالي بينيت، والذي هو أكثر يمينية من نتنياهو، كانت محاولة ثبت أنها فاشلة، لتحقيق هدف عابر، فيما معضلة إسرائيل من حيث هي حائرة سياسياً وأيديولوجياً ولا تعرف طريقها السياسي بأي اتجاه تسير، ما زالت قائمة، وإذا كان لابيد يظهر في المدى البعيد كمنقذ لها، يمكنه أن يعيد تأسيسها، فإن دون ذلك جهداً وعملاً شاقاً، لا يقتصر تحقيقه على الداخل الإسرائيلي، ولا على ألاعيب السياسة الانتهازية الإسرائيلية.
تبدو إسرائيل بدون استراتيجية سياسية حقيقية، فحكومة بينيت طوال عام، لم تقم بأي تغيير يذكر، بل إنها أدارت الشأن العام، بأحزاب متباينة، وإذا كان انتقال دفة القيادة للابيد يؤشر على عودة الأمر لنصابه، فإن ذلك منوط بنجاح الرجل في الانتخابات القادمة، حيث تشير معظم استطلاعات الرأي الى عودة الشلل السياسي كما كان الحال طوال عامي 2020، 2021، بل إن الصورة تبدو مقلوبة حتى في العلاقة مع الولايات المتحدة، فإذا كان دونالد ترامب، قد سعى طوال سنوات حكمه الأربع لدعم بقاء صديقه نتنياهو كرئيس للحكومة، فإن جو بايدن يسعى الى تعزيز فرص بقاء لابيد في المنصب.
على الأغلب فإن نتائج انتخابات الكنيست الخامس والعشرين، غير الحاسمة ستُبقي على لابيد في المنصب، ولكن بحكومة تصريف أعمال، وليس هناك من مناص لإحداث انقلاب سياسي حقيقي، يصل الى مستوى الثورة، بتغيير وجهة السياسة الإسرائيلية 180 درجة، وعدم الاكتفاء بإدارة الأمور وفق حسابات الواقع الحالي، أو رضوخا لصندوق الاقتراع الانتخابي.
اي على إسرائيل أن تضع حداً لاحتلالها، وأن تقطع الطريق على تفشي وتزايد مظاهر العنصرية داخلها، التي ستجعل من الدولة هدفاً لحرب شعبية كونية، كذلك أن يتم لجم التطلع التوسعي، استناداً للقوة العسكرية، ومحاولة السطو على الثروات الطبيعية في عموم المنطقة، خاصة في البحر والمياه الإقليمية، حيث تحاول إسرائيل أن تتمدد بحدودها البحرية، بعد أن تمددت لعقود مضت، تلت إعلان قيامها عام 1948، بحدودها البرية.
كل هذا بحاجة الى رجل دولة من طراز فريد، وهناك فرصة في أن يتجرأ لابيد، ليظهر على صورة بن غوريون جديد، يعيد تأسيس الدولة، كدولة تنتمي للعصر الحديث، ولا تعتمد على الادعاء التاريخي، وهنا سيجد نفسه في مواجهة التطرف اليميني والديني، وليس فقط في مواجهة نتنياهو.