ربع قرن مضى على أول زيارة لرئيس أميركي للفلسطينيين، أول من افتتح زيارات الرؤساء الديمقراطي بيل كلينتون، كانت حينها الآمال عالية بمشروع بدا للوهلة الأولى أنه يمكن أن يسير على أقدام قبل أن تحطمها القوة الإسرائيلية، تعلق الفلسطينيون حينها بالرئيس الشاب وكانت أميركا في ذروة قوتها للتو كانت قد حسمت صراعها مع الاتحاد السوفييتي لتعلن عن نفسها القوة الأولى بلا منافس ورئيسها رمز لتلك العظمة التي اعتقد الفلسطينيون للحظة أن رعايته لهذا الملف المعقد ستحقق لهم بعض الحقوق، قبل أن يكتشفوا أنه لم يكن أكثر من مجرد ساعي بريد لإيهود باراك في نهاية ولايته في كامب ديفيد ...ففشل كل شيء.
لكن كلينتون وضع تقليداً سار عليه رؤساء الولايات المتحدة، جاء بوش قبل أن يغادر البيت الأبيض وزع أمانيه بالسلام كما أمنيات العجائز وغادر ليسلم لأوباما الذي كان مفاجأة هائلة في مواقفه ليتصل بالرئيس الفلسطيني فور تسلمه معلناً أنه سيتخذ سياسة مختلفة تنتهي بالحل وإقامة دولتين، حلق الفلسطينيون عالياً مع وعودات وتمنيات الرئيس الديمقراطي قبل أن يكتشفوا أن السلام بات أبعد وأن الوقائع على الأرض باتت أكثر صدقاً من دعوات الإصلاحيين وأن لا قوة أميركية لديها الاستعداد لحل هذا الصراع، وأن حكومات إسرائيل وحدها صاحبة القول الفصل وقالت كلماتها بالاستيطان الذي أعدم إمكانية حل الصراع ولم يترك متسعاً لإقامة الدولة.
كان ترامب الرئيس القادم من عالم العقارات والصفقات والمضاربات والتجارة والغريب عن تاريخ النزاعات السياسية والمنطقة وتعامل مع الوقائع والموازين معتقداً أن الفلسطينيين لا يملكون في سوق السياسة ما يؤهلهم للحصول على أي شيء، تعامل معهم كما تعامل الأميركي مع الهنود الحمر لصالح الإسرائيلي الأبيض. فأنتج هو وطاقمه صفقة القرن التي تم طبخها في مطابخ السياسة الإسرائيلية التي جعلت نتنياهو يقفز فرحاً معتقداً أن لحظة تاريخية لن تتكرر حين وفرت له رئيس دمية بهذا الشكل.
بايدن الرئيس يأتي للمنطقة للمرة الثانية ويلتقي نفس الرئيس الفلسطيني، وفي المرة الأولى جاء نائباً للرئيس كان أكثر تفاؤلاً مدعوماً برئيس قوي وضع رؤية نظرية وان تم اكتشاف عجزه لاحقاً عن تنفيذها فقد تمكن آنذاك من إرغام نتنياهو على إعلان موافقته على حل الدولتين في خطاب بجامعة بار إيلان وكذلك وقف الاستيطان لعشرة أشهر وفتحوا مساراً سياسياً قاده وزير الخارجية حينها جون كيري كان المسار الأكثر جدية، وبعده أسدل الستار على محاولات الحل عندما قام نتنياهو بتفجيره حسب وصف كيري أمام الكونغرس.
ما بين الزيارة الأولى لبايدن والثانية جرت مياه كثيرة في النهر. ففي الأولى كانت المناخات أكثر تفاؤلية أما الآن فلا شيء يمكن الحديث عنه فقد أصبح المسار السياسي مع إسرائيل جزءا من الماضي، ويزور المنطقة ليقابل حكومة إسرائيلية مسيرة أعمال ضعيفة مهزوزة لديها كل مبررات عدم الحديث في هذا الملف وتتكئ على عملية طويلة من تطويع الفلسطينيين وتكريس معادلة اقتصادية وعلاقة عنوانها الإدارة المدنية وأعلاها وزير الدفاع.
والأهم من كل هذا أن الزيارات السابقة لرؤساء الولايات المتحدة كانت تقريباً حصرياً تنحصر في الصراع بمن فيهم ترامب لكن بزيارة الرئيس الحالي فقدت القصة بريقها وانزاحت القصة الفلسطينية للهامش، ويعرف الإسرائيليون قبل غيرهم أن هذه الزيارة تفوح منها رائحة النفط وليس رائحة السياسة.
يرفع الفلسطينيون كعادتهم سقف أمانيهم مع رئيس أميركي هو الأضعف ووسط مناخات هي الأسوأ دولياً وإقليمياً ومحلياً، فعلى الصعيد الدولي تأخذ الحرب الدائرة في أوروبا والتي تلقي بتداعياتها على كل الكون وكل بيت رأس الاهتمامات وعلى الصعيد الإقليمي. فنحن أمام تراجع إقليمي لصالح إسرائيل يبدأ شركاؤه من أنقرة وينتهي غرباً في الرباط ووضع فلسطيني هو الأسوأ بعد فشل إجراء الانتخابات وتكريس الانقسام حيث بدا أنه المسار الأبدي للفلسطينيين وحكومة إسرائيلية تسقط بانتظار عودة قطب اليمين للحكم.
ومع ذلك يطلب الفلسطينيون ما عجز أوباما عن إعطائه وهو مجرد فُتات سياسية لا تمثل الحد الأدنى لمشروع التخلص من الاحتلال.
صحيح أنه لا يمكن فصل سقف السياسة عن واقعها وإمكانياتها وقوتها ولكن ليس للحد الذي يمكن فيه التوافق مع هذا الواقع لأن الشعوب التي تحررت من المحتل لم يهبط سقفها عن مطالبته بالجلاء والرحيل وليس مطالبات معيشية منه أو معه.
وفي تلك المعادلة ما يجب أن يستوقف الجميع يجب ألا يطالب الفلسطينيون الرئيس الأميركي فقط بفتح أفق سياسي وهذا أصبح بلا معنى في عالم السياسة بعد أن فتح كل رؤساء الولايات المتحدة كل منهم أفقا سياسيا كان سقفه الأفق الإسرائيلي.
والمؤمن لا يلدغ من رئيس أميركي مرتين فما بالنا بأربعة سبقوه؟
لم يفتح القنصلية الأميركية في القدس وهذا أضعف الإيمان، وإذا كان كل هذا الخوف خلف قرار مكتب منظمة التحرير في واشنطن فهل يمكن لإدارة بهذا الضعف أن تفتح مساراً سياسياً؟ .
إذا ما وضعنا الظروف والمناخات جانباً يمكن القول إننا أمام زيارة كان يجب أن تسبقها إجراءات على الطاولة لا تأجيل تلك الإجراءات فيأتي الرئيس الأميركي إذا أراد أن يبحث عن حلول هو يريدها وليس أن نبقى متسولي حلول.
الأهم في هذه الزيارة النفطية بامتياز هو اتجاه الميل بمركز القوة لصالح العرب حيث النفط هو تجاوز القوة العسكرية والاقتصادية، وتلك لحظة عربية تجسدت العام 1973 وها هي تتكرر تضع العرب لأول مرة في وضع قوة أغلب الظن أن نهاية الحرب في أوكرانيا ستبددها ولكن العمل السياسي هو استغلال اللحظة التاريخية.
فهل يمكن للعرب وضع الرئيس الأميركي في لحظات ضعفه أمام معادلة لن تتكرر فرصتها عنوانها «المبادرة العربية مقابل مخازن النفط»؟ وهي مبادرة سعودية وتلك ممكنة الآن والآن فقط هل يفعلها محمد بن سليمان؟ هذه لحظة إن استغلها سيصنع التاريخ....!!!!