في الآونة الأخيرة تزايدت أعمال الحروب التكفيرية على مظاهر مختلفة من الإبداعات الثقافية التي تعكس جمال الروح ورغبات الإنسان بأيام أفضل من خلال تشكيلات فنية أقيمت في عدد من المناطق كان آخرها في مدينة رام الله قبل يومين من خلال مسرح عشتار ، والذي تعرض المشاركين فيه من الشباب لاعتداء همجي . 

لقد شجع مجتمعنا الفلسطيني وحركتنا الوطنية كل أنواع الفنون ومنها المسرح حين شكلت فرق البلالين ودبابيس المسرحية والبراعم والعاشقين الموسيقية والفنون الشعبية ، شرف الطيبي وسرية رام الله وفي كليات الفنون الجميلة بجامعاتنا الوطنية منذ سبعينات القرن الماضي وفي زمن الاحتلال الذي لم ينتهي بعد ، أداة لمقاومة الاحتلال وقبل ذلك بالقدس ويافا وحيفا وغزة أداة ثقافية إنسانية ووطنية إبداعية تنويرية . 

 لم يكن مجتمعنا ابداً احادي النظرة تجاه الفكر الإبداعي الثقافي ، بل أن شعبنا ومنظمة التحرير كان الحاضنة الدائمة والدافئة لنمو وتطور الفنون الجميلة المتنوعة والأعمال الثقافية المختلفة التي عكست مفاهيم إنسانية ووطنية ، فكان مجتمعنا منفتحا على افكار شكلت اضافات انسانية وكانت محور تقدم شعوب أخرى في هذا الكون ، كما كان وما زال الوطنيين من شعبنا كذلك .

 

ان حرية الأوطان تبدأ بحرية الأنسان ، وتبدأ الحرية حيث ينتهي الجهل ، والفن يشير إلى تحرر الإنسان في ساعات إبداعه ليعطي مذاق الحرية للآخرين ، حيث الاعتداء على الفنون هو اعتداء على حرية الإنسان وتحرره .

 

ان العدو الاساس للثقافة والفنون الفلسطينية وتراثها هو الاحتلال الاستيطاني الذي يحاول دائما من خلال تزوير الهوية الثقاقية وموروثها والاعتداءات  المتكررة على المراكز الثقافية ورموز الثقافة ، بهدف المس بالحركة الثقافية ومؤسساتها وهيئاتها والعاملين على رعايتها وتنميتها.

 أن مثل هذه الاعتداءات زادت من تصميم وإرادة المراكز الثقافية والفكرية على تقديم المزيد من فعالياتها الإبداعية والتنموية الثقافية في مختلف المجالات والتخصصات تثبيتا للهوية الثقافية الوطنية في مواجهة سياسة الاحتلال الإسرائيلي ومحاولاته المتكررة لطمس الثقافة الفلسطينية وابعادها الإنسانية التنويرية .

 

بالنسبة لنا وإلى الفنانين والمؤسسات الفلسطينية الثقافية فإن مواجهة تلك الاعتداءات الاسرائيلية تكمن في حماية حرية التعبير والحفاظ على الهوية ، وهي طريقة للنضال ضد محاولات  "الإبادة الثقافية" المستمرة التي يتم شنها على شعبنا الفلسطيني.

 وبهذا المعنى ، فإن محاولات الاعتداء من مجموعات جاهلة وظلامية الفكر تحت حجج واهية لا تتعلق فقط بكبت قول أو أسكات فعل فني تراثي أو معاصر ما ، لكنها تتعلق أيضاً بالخوف من التغيير وتطور الفكر الإنساني ، وبالتالي حرمان الناس من تراثهم وثقافتهم  وحرياتهم وتطورهم ، أن هؤلاء الذين يمارسون الاعتداء يتوجب محاسبتهم وايقاع العقوبات بحقهم وفق القانون ، لمنع تكرار مثل تلك الغزوات .

 

"فالفن هو ممارسة أقصى مدايات الحرية، التحرر من قيد الجسد في الرقص ، من قيود الرتابة الاجتماعية في الموسيقى ، والتحرر من قيود المادة وطرائق التعبير المفتوح في الفن التشكيلي ، ومن قيود اللغة التقليدية في الشعر والأدب."

 

"وهنا لا بد من الإشارة إلى تعريف اليونسكو رسمياً للحرية الفنية بأنها «حرية تخيل أشكال التعبير الثقافي المتنوعة وخلقها ونشرها بشكل خالي من الرقابة الحكومية أو التدخل السياسي أو الضغوطات الصادرة عن جهات خاصة غير حكومية ، وهي تشمل حقوق جميع المواطنين في الوصول إلى هذه الأعمال إلى جانب أنها ضرورية لازدهار المجتمعات وتطورها» ، وتضيف اليونسكو بأن «الحرية الفنية تُجسّد مجموعة من الحقوق المحمية بموجب القانون الدولي» بما يشمل ،حق الإبداع بدون رقابة أو ترهيب ، حق الحصول على حماية للأعمال الفنية ونشرها ومكافئتها ، حق الحرية في تشكيل حركات فنية ، حق الحرية في تشكيل منظمات فنية وحق المشاركة في الحياة الثقافية بشكل حر ."

 

في الفن تتحقق إنسانية الإنسان في علاقته بالكون ، حيث يستعيد الفن الإنسان من غربته التي فرضتها عليه ظروف قهر وبعض المفاهيم الاجتماعية البالية والتي لا تتفق مع ما وصلت له الحياة الانسانية من تطور . لكن هنالك من يريد ان يفرض المعيقات أمام طرق التفكير الحر والأبداع ويُخضع الناس والثقافة لاشكال من التخلف ويعود بحالة المجتمع احقاب إلى الوراء من خلال فرض رأي احادي بالقوة باستخدام الترهيب والاعتداءات الجسدية الهمجية . 

فتلك الظواهر ليست وليدة اللحظة الراهنة ، لكنها غريبة عن ثقافتنا الاصيلة المتوارثة ، فهي قديمة عبر التاريخ حين حاولت المجتمعات القديمة حتى في أوروبا بالقرون الوسطى معاداة أشكال تنوع الثقافة والابداع والفنون تحت حجج انها تتعارض مع التقاليد والمعتقدات الكنسية السائدة انذاك ، فتراجعت المجتمعات الأوروبية نفسها وسادت فيها فترة من الظلام والتوحش .

 

وهنا لا بد أن أشير الى ما كتبه صديقي الريحاوي الصادق وكاتب الأدب السياسي حسن صالح ،

" قال له .. رغمَ وجعٍ كثير

 فلا بدَّ للروح من إطلالة وردة

وصوت عصفور يغني لتعبِ الصباح ، يا الهوى .. لا بدَّ من ذلك .