ما كان يمكن لرئيس أميركي يقوم بجولة إلى الشرق الأوسط، إلّا وتكون إسرائيل أولى محطّاته.
اختيار إسرائيل كمحطّة افتتاحية لجولة الرئيس الأميركي جو بايدن، يعكس أولويات السياسة الأميركية في هذه المنطقة، منذ قيام دولة إسرائيل. في إسرائيل ومنها، يجري وضع الأساس الذي ستقوم عليه زيارة الرئيس الأميركي التي تتّسم فعلاً بطابع وأبعاد تاريخية.
قبل وصوله إلى إسرائيل، أمس الأربعاء، الثالث عشر من تموز الجاري، كان بايدن قد نشر مقالاً له في الـ"واشنطن بوست"، قدّم خلاله استعراضاً لمنجزات إدارته في الشرق الأوسط.
وكان المقال موجّها في الأساس للداخل الأميركي، لكنه تضمّن، أيضاً، أهداف الزيارة التي قرر بعد تردد أن يقوم بها للشرق الأوسط.
لا مكان للقضية الفلسطينية في برنامج زيارة بايدن، أكثر من لقاء محدود زمنياً مع الرئيس محمود عباس في بيت لحم، بينما يزدحم برنامجه خلال وجوده في إسرائيل قبل أن يتوجّه منها إلى جدّة مباشرة، ربما للإشارة إلى تأكيد أحد أهداف زيارته.
لا في مقالته، ولا في تصريحاته، أو تصريحات مسؤولين في إدارته ما يشير إلى أن اهتمام بايدن يتجاوز إعادة إطلاق الوعود وتأكيد الالتزام برؤية الدولتين، كخطاب مكرور سمعناه منذ أكثر من سنتين.
في الغالب، قد يعلن بايدن إعادة تقديم دعم مالي للسلطة الفلسطينية، سبقها الإعلان عن تقديم مئة مليون دولار للمستشفيات الفلسطينية في القدس.
الطلبات الفلسطينية من الإدارة الأميركية تنطوي على قائمة طويلة أبرز ما تتضمنّه يتصل بالحقوق السياسية، وبالسياسات الإسرائيلية المخالفة للقرارات الدولية، سواء فيما يتصل بالقدس، الاستيطان، هدم البيوت وسياسة التطهير العرقي، الأسرى، سرقة أموال المقاصة، الحصار على غزة، والقمع الإسرائيلي الذي لا يتوقف.
ليس لدى الرئيس بايدن ما يجيب به عن أسئلة الفلسطينيين وطلباتهم سوى العمل على سياسة خفض التصعيد، وضبط النفس، والتساوق مع ما يُعرف بسياسة السلام الاقتصادي.
رشوة محدودة للفلسطينيين من قبل بايدن، ورشى من قبل إسرائيل على شكل زيادة تصاريح العمال، وتصاريح الزيارة للقدس والأقارب والموافقة على منح لمّ الشمل لآلاف الفلسطينيين المقيمين أساساً في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وكل ذلك برفقة تدخلات وضغوط من المحيط العربي، لضمان استقرار حالة الهدوء المؤقّت، بأمل أن تتحول إلى هدوء دائم.
سيكون العرب هناك في جدّة، بغياب إسرائيلي جسدي مباشر ولكن بحضور عملي سياسي وعسكري وأمني، واقتصادي غير مباشر، وفي انتظار توسيع دائرة التطبيع، لتشمل عدداً آخر من الدول العربية حيث تأمل إسرائيل أن تكون السعودية على رأسها.
بايدن أعلن أن هدفه الأول تعزيز الضمانات الأميركية بشأن أمن إسرائيل وتفوقها، واندماجها في الإقليم.
عملياً، منذ توقيع "اتفاقيات أبراهام"، فإن إسرائيل حققت تقدماً جوهرياً واستراتيجياً مهماً نحو الاندماج في المنطقة، وإقامة شراكات متعددة الأغراض والأهداف.
وعملياً، أيضاً، نجحت إسرائيل في تعزيز وجودها العسكري والأمني، وتعميق شراكاتها اللوجستية في البحر الأحمر والمحيطين الهندي والهادي، وفي الخليج العربي.
إذا كانت إسرائيل قد حققت ذلك فعلياً قبل وصول بايدن إلى المنطقة فما الذي تبقّى لها لتحصل عليه أكثر؟ إسرائيل تريد توسيع دائرة الشراكات والشركاء في المنطقة، وتنظيم دورها ووجودها، عبر اتفاقيات معلنة تتجاوز ظاهرة التحفظ النسبي التي تسود علاقاتها واتفاقياتها مع الجماعة العربية المعنية.
ومع أن العرب يمتلكون إمكانيات اقتصادية وعسكرية ولوجستية كبيرة، ويستطيعون الدفاع عن أمنهم القومي، أمام أي تهديدات خارجية، إلّا أنهم يفقدون الثقة بهذه الإمكانيات، ما يدفعهم للقبول بالحماية الأميركية، التي تمنح إسرائيل التوكيل المفتوح، لكي تشكل الدينمو الأساسي الذي يحرك السياسات العربية.
لا ينتبه العرب إلى أن إسرائيل قد أُنشئت في الأساس كمشروع استعماري، هدفه منع العرب من الدخول في عصر النهضة، وإقامة وحدتهم القومية، وتحقيق مشاريعهم وأهدافهم الاستراتيجية.
في هذا السياق، فلسطين مجرد القاعدة التي تنطلق منها إسرائيل بمشروعها التوسعي للمنطقة العربية، وهو أمر تدركه الجماهير العربية، وتُغمض عنه عيونها الرسمية العربية.
الهدف الثاني الأساسي لزيارة بايدن، يتعلق بأمن إمدادات الطاقة، الأمر الذي تزداد أهميته في ضوء الصراع في أوكرانيا الذي ينطوي على أبعاد دولية.
يمكن للإدارة الأميركية ورئيسها، أن يتجاوز خطابها حول حقوق الإنسان، وأي خطابات أخرى سلبية تجاه الدول العربية المعنية، وأن تعود لخطاب الشراكات الاستراتيجية العميقة، طالما أنها بحاجة إلى استرضاء دول النفط العربي.
يسعى بايدن لإقناع دول الخليج بضرورة رفع معدلات إنتاج النفط بهدف التمكن من خفض الأسعار، وتعويض النقص في إمدادات النفط بسبب سياسات روسيا، وتداعيات الحرب في أوكرانيا.
ولكن ثمة هدفا في بطن هذا الهدف، وهو إقامة حلف معلن أو غير معلن، كامتداد لحلف "الناتو"، في هذه المنطقة الاستراتيجية وفي الجوار الحيوي الاستراتيجي لروسيا والصين، والسوق الآسيوية الضخمة.
ينطوي ذلك على بُعد دفاعي من قبل الولايات المتحدة للحفاظ على مكانتها الدولية على رأس نظام دولي يتبدد، وبُعد هجومي على مناطق النفوذ الصيني الروسي.
بايدن يعقد قمة في جدّة، ويصل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى إيران بعد أيام أو أسابيع قليلة.
هكذا يكون العرب قد انساقوا خلف حالة الاستقطاب الحاد بين القوى العظمى والخشية أن يكونوا ضحايا لحالة الاستقطاب هذه، ما يعني أن المنطقة مرشحة لصراعات واسعة، ومتعددة الجبهات، سيعرف بعدها العرب أين وضعوا أمنهم واستقرارهم وحقوقهم.