لقد كانت الفجوة واسعة بين مطالب الحق الفلسطيني الذي مثله الأخ الرئيس بكلمته المتمسكة بالثوابت ، وبين كلمات بايدن التي لم تخرج عن التمنيات " الاخلاقية " وما شابها من نفاق بما يتعلق باعطاء دروس حول الديمقراطية وحقوق الانسان وكأنها هي من يرعى حقوق الشعوب والانسان ، وبالتاييد اللفظي لحل الدولتين واستبعاد اية حلول سياسية عملية الآن ، وتجاوز المبادرة العربية للسلام والقانون الدولي واستبدالهما بتوسيع التطبيع وإجراءات بناء الثقة وتحسين شروط الحياة تحت الاحتلال من خلال إجراءات إسرائيلية هامشية هنا وهناك ، رغم أنها مسوؤلية اي احتلال وفق القانون الدولي أو اتفاقية جنيف الرابعة التي برأيي المطالبة بتنفيذها اهم من المطالبة بشبكة الجيل الرابع للاتصالات ، وتأكيده على الموقف الأمريكي بشأن القدس عاصمة لإسرائيل يتم التفاوض على حدودها لاحقا مع ابقاء الوصاية الهاشمية على المقدسات فيها .
اذن النتيجة التي جاء بها بايدن حتى الآن اضافة الى انه استفاد من تحقيق واجب الحج الديني ، هي اتفاقية " اعلان القدس " والتي توسع وتعمق الشراكة الاسترايجية بين اسرائيل وامريكيا بكل القطاعات تمهيدا لما سيحاولون الضغط باتجاه الاتفاق عليه بالرياض بخصوص استبدال عدو الامة العربية في اطار الشرق الاوسط الجديد او ما له من تسميات اخرى ، اضافة الى الامن والطاقة ومواجهة قوى الشرق السياسي ( روسيا والصين ) امام تسارع المتغيرات الدولية في محاولة للابقاء على دور الهيمنة الامريكي المتهاوي وتفوق إسرائيل.
النتيجة لنا نحن باعتقادي المتواضع ، هي فقدان الأمل كما هو الحال دائما من المواقف الامريكية المتكررة والمنحازة والعدائية اصلا والتي تعبر عن شراكتها مع اسرائيل تحت كل الظروف ، وهي مواقف بالضرورة ازعجت اليوم من راهنوا على سرابها بحكم ضرورتها لهم او ان إمبراطورية الكذب قد خدعتهم بها .
فكان واضحا عدم قناعة الأمريكان أو عدم رغبتهم في إيجاد اي أفق سياسي جاد وعملي يتعلق بما طالب به الأخ الرئيس من حقوق مشروعة من أجل تنفيذها ، وكان واضحا رغم ما تحمله معاني اللقاء مع الاخ الرئيس من معاني ، هي استمرار الارادة الأمريكية باستمرار استفادة إسرائيل من فرص كسب الوقت تحت وهم الازمة الحكومية لتمرير مشاريعها الاستعمارية دون اي محاسبة لخلق وقائع جديدة على الأرض بما فيها بالقدس وبما يحقق لهم المتغيرات الديمغرافية السياسية التي يريدونها وفق رؤيتهم التوراتية الصهيونية وتعميق اضطهاد شعبنا .
بناء على ذلك فانني اعتقد اننا سنتعرض لمزيد من الضغوط بالفترة القادمة من بعض العرب والعجم لمحاولات المقايضة حيث لن تنتهي سياسات الولايات المتحدة حتى اخر رمق ، ما يتطلب منا تقييم جاد للمرحلة والظروف لتثبيت صمود شعبنا وتعزيز المشاركة الجماهيرية وكافة أشكال الديمقراطية وتوسيع آفاق المقاومة الدبلوماسية والشعبية ومفاهيم الاقتصاد المقاوم بما يشمل ذلك من برمجة البدء بتنفيذ قرارات المجلس المركزي لمنظمة التحرير ولو تدريجيا ، وإعادة النظر في مفهوم وشكل علاقاتنا الخارجية في ظل تسارع التحالفات القائمة ومتغيراتها ، إضافة إلى فتح أبواب العلاقات على أوسع أبوابها مع قوى الشعوب بالعالم لفضح الاحتلال العنصري ونظام الابرتهايد الذي يمارس ضد شعب يسعى للتحرر الوطني ، وانتظار ملامح النظام العالمي الجديد الاخذ بالتبلور أمام افول أشكال الهيمنة الأمريكية لرسم تحالفات لاحقة مبنية على اسس القانون الدولي وتاييد مبداء حق تقرير المصير لشعبنا نحو تحقيق مصالحنا بالحرية والاستقلال الوطني وإنهاء الاحتلال اولا وقبل اي فتات خبز من هنا او هنالك ، فليس بالخبز وحده يحيى الإنسان.
ما تقدمت به كان محاولة للاجتهاد باستباق وضوح النتائج النهائية لزيارة بايدن للمنطقة ، ففي علم السياسية فان الاجتهاد بالرأي يقبل الخطاء ويقبل الصواب ولا يعتمد فقط على ما يتم اعلانه ، بل على محاولة التحليل السياسي للواقع والظروف والمصالح وما لا يتم الاعلان عنه .
لذا فبرأيي ورغم اهمية التوقف الرمزي بالقدس المحتلة حتى ولو تحت حراب الاحتلال في محيط المستشفى رغم عدم حضور رسمي فلسطيني واقتصار حديث بايدن اجمالا حول مرض السرطان والعناية الطبية ، ومن ثم اللقاء مع الأخ الرئيس في مدينة بيت لحم ومحاولته اقناعنا بجوائز ترضية متعلقة ببعض إجراءات تحسين ظروف الحياة بمقابل التخلي عن مطالب شعبنا وقيادته المتمثلة بالحل السياسي القائم على الحقوق التاريخية الوطنية كاملة والتي كافح شعبنا وحركته الوطنية من أجلها عقود طويلة وباثمان باهظة والتي تلخصت بما أكد عليها الأخ الرئيس أمام الزائر ، ما شكل رفضا لما جاء به بايدن من افكار لتصفية قضية شعبنا بأسلوب ماكر ينم عن العقلية الأساسية لحزبه والتي مارستها بحق شعوب عدة .
فإذا كان هنالك حقا ملامح تغير بالسياسة والمواقف الأمريكية كما يرى البعض ويتوهم ، وهو ما لا أعتقد به جازما نظرا لمحددات العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة ولدور الدولة العميقة بها تاريخيا والمتمثل اساسا بالقيم الأمريكية الاستعمارية " الاخلاقية " وبدور إسرائيل الوظيفي خدمة لأسس انشائها الاستعمارية والتوراتية الصهيونية المتعددة على حساب حقوق شعبنا صاحب الأرض .
صحيح ان هنالك أشارت جديدة تشكل بدايات لتبلور موقف معادٍ من سياسات إسرائيل وبالاخص منها ما له علاقة بالابرتهايد من أعضاء كونغرس ومنظمات شعبية وحقوقية ومنها يهودية ، لكن ذلك يحتاج إلى وقت طويل وعملية بناء تراكمية لكي يصبح مؤثرا عند صناع القرار السياسي بالولايات المتحدة التي ما زالت تحكمها مصالح المجمعات العسكرية والمالية ومؤثرات الحركة الصهيونية التي تعكس لليوم سياسة مطامع الامبريالية والليبرالية الجديدة المتوحشة في هذا العالم .
لقد كان بايدن أكثر وضوحا من غيره بما قام به من اعلان صهيونيته جهارا وقوله ان الظروف الحالية لا تخدم إطلاق مسار سياسي وأن الوقت غير مناسب لاستئناف المفاوضات وأن حل الدولتين الذي ادعى الايمان به بعيد المنال ، دون ان يتفق حديثه بالخصوص مع اسس القانون الدولي بشأن مفهوم الدولة الوطنية وسيادتها الكاملة ودون الإشارة إلى سرطان الاستيطان وجوهر القضية الفلسطينية المتعلق بفرض اللجؤ وبالتطهير العرقي لاصحاب الأرض وقضية لاجئينا الذين شردتهم الحركة الصهيونية التي يفتخر بايدن بالانتماء لها ، وما تبعها من احتلال ما تبقى من أرضنا التاريخية ومن افرازات نظام الابرتهايد لدولة الاحتلال الأستيطاني . فكان كلامه بالمؤتمر الصحفي عبارة عن نفاق وذر للرماد بالعيون ، خاصة عندما اتى على تشبيه موطنه الاصلي ايرلندا بقضية شعبنا بفلسطين ، والذي قد يكون نابعا من الجهل بالتاريخ او من كونه مستوطنا في أرض دولة أقيمت على انقاض شعبها الأصلي ، أو استنادا لتقارير المخابرات المركزية الأمريكية لبايدن تفيده بأن الفلسطينين قد تغريهم تلك الوعود والمساعدات المالية وقد يبحثون عن سلام اقتصادي دون البعد السياسي ، ما يؤشر أن تلك المخابرات لا تعي معنى الفلسطيني عبر تاريخه الطويل .
المسألة برأيي كانت تتعلق بمحاولة الضغط والترهيب بهدف تجميد اي حراك سياسي فلسطيني ومحاولة ادخالنا مرة أخرى في دهاليز إدارة أزمة دون حلول مقابل استمرار سراب المواقف الأمريكية الزائفة وفتات خبز في ظل الأمر الواقع ، اولاً من أجل تأمين كل الوقت اللازم لتحقيق المشروع الصهيوني الاستعماري في كل ارض فلسطين التاريخية حتى لا تبقى هنالك أرض تقام عليها دولتنا المتواصلة بفعل الاستيطان والضم ، وحتى ولو كانت الدولة وفق مفهوم بايدن لا تختلف عن رؤية ترامب السابقة بالخصوص والذي رفضناه سابقا بكرامة وبثمن كبير ، وثانيا لان ملف القضية الفلسطينية لا يتمتع بأولويات السياسة الخارجية الأمريكية ومصالحها المهددة الان ، كما لم يكن كذلك سابقا من باب إنهاء الاحتلال الذي تسانده فعليا الولايات المتحدة بهدف استدامته ومنع حقنا في تقرير المصير .
المهمة الأمريكية الآن وكما أعلن عنها بايدن بالسعودية امس هي عدم ترك فراغ لروسيا والصين بمنطقتنا من جهة ، ومن جهة أخرى لمحاولة فرض التهديد على إيران بأشكال مختلفة الأمر الذي لا أعتقد بنجاعته أمام إدراك الدول المجتمعة بالرياض لمصالحها امام الضعف الأمريكي المتزايد لاقتصادها وسياساتها الخارجية بافول هيمنتها ، إضافة إلى موضوع البترول والغاز وتامين حاجات أمريكيا بأسعار رخيصة منها تحت شعارات آمن الطاقة بالعالم ولمحاولة مواجهة نقص الغاز الروسي على أثر الارتداد العكسي للعقوبات الأمريكية على روسيا .
ما يؤكد أن بايدن يعود إلى وطنه بخفى حنين بعد ما سمعه من الاخ الرئيس أبو مازن في أن السلام يبداء من فلسطين والقدس المحتلة عاصمة دولتنا ، هو ما اعلنه وزير الخارجية السعودي اليوم وما تضمنه البيان المشترك بخصوص ضرورة تنفيذ حل الدولتين على حدود ٦٧ وعاصمتها القدس الشرقية وفق المبادرة العربية للسلام وقرارات الشرعية الدولية قبل الحديث عن التطبيع السعودي مع اسرائيل رغم عدد من الاتفاقيات التي ستنفذ .
كما أن بايدن بات يعرف اليوم ان السعودية ودول الخليج لها مصالح مشتركة مع الصين وروسيا وليس من مصلحتها أن تقف في مكان معادٍ لهم باتت هيمنته في افول واقتصاده تهبط مؤشراته وتتعمق ازمته بل وازمة نظامه السياسي بشكل عام ، كما وانها لا ترغب في إشعال اتون حرب مع جارتهم إيران والتي يتمتع البعض منهم بعلاقات حسن جوار معها .
أن ما أكدت عليه قمة دول التعاون الخليجي بالإضافة إلى مصر والاردن والعراق أمام بايدن ، في أن حلول التنمية والاستقرار والتعاون بالمنطقة يجب أن يعتمد اساسا على حل صراعات المنطقة وبالمقدمة منها القضية الفلسطينية وفق تنفيذ حل الدولتين على حدود ٦٧ وعاصمتها القدس الشرقية سندا للقرارات الدولية ومبادرة السلام العربية التي أعتقد بايدن بإمكان تجاوزها ، مواقف شكلت ازعاجا للمخطط الأمريكي الذي جاء بايدن من أجله ، إضافة إلى رؤية المجتمعين للعلاقة مع إيران وفق اسس الدبلوماسية الايجابية من العلاقات وإمكانيات التعاون اللاحق أيضا.