في يوم الخميس 14/7/2022، وعلى بُعد أمتار قليلة من باب الخليل، وعلى مسافة قريبة جدا من فندق البترا المهدد بالاستيلاء عليه من قبل المستوطنين في حارة بني حارث التي تعرف اليوم بميدان عمر بن الخطاب، اختار رئيس الولايات المتحدة جوزيف بايدن ورئيس حكومة الاحتلال الاسرائيلي يائير لبيد، مقر المجلس الإسلامي الأعلى الواقع على شارع مأمن الله غربي سور القدس القديمة ، والذي يبعد 500 متر فقط عن باب الخليل، ليعلنا من هذا المكان توقيعهما على اتفاقية أو وثيقة عُرفت بإسم "إعلان القدس"، وليلتقطا صوراً تاريخية تأكيداً على أهمية الزمان والمكان في توقيع الاعلان المذكور.
وبغض النظر عن مضمون الاتفاق، وكوارثه على الدول العربية على وجه الخصوص دول منطقة الخليج، لكن ما يقلقني من موقع التوقيع هوالإطار الشكلي للإتفاق، ومعناه اللوجستي لأهل القدس، إذ لم يكن التوقيت والمكان من قبيل الصدفة.
فعندما ينظر المرؤ إلى مقر توقيع الاتفاق، يظن للوهلة الأولى، أنه فرع من فروع أحد الفنادق العالمية المشهورة، ذلك أن سلطات الاحتلال دأبت خلال السنوات المنصرمة على تغيير بعض المعالم المحيطة بمقر المجلس الإسلامي الأعلى وأبقت على واجهته فقط، وأضافت بعض التصميمات، وأطلقت عليه أسم وولدرف إستوريا- هيلتون.
تبدأ الحقيقة من المكان والزمان، لتروي لنا حكاية المبنى الذي يحمل صبغة إسلامية وعربية وتاريخية تعود إلى عشرينيات القرن الماضي.
بداية تشييد مبنى المجلس الإسلامي الأعلى كان في العام 1918 وانتهى بناؤه عام 1929، إذ راودت الحاج أمين الحسيني المفتي العام للقدس، وبصفته رئيسا للمجلس الإسلامي الأعلى في حينها، فكرة تشيّد البناء ليكون مركزا شامخا وحصنا منيعا في غربي سور القدس، وبالتحديد في منطقة مأمن الله، لوضع حد لأطماع الحركة الصهيونية في تلك المنطقة.
فأراد أن يُصبغ المبنى بطراز إسلامي على غرار البناء الأندلسي، لوضع علامة فارقة في تلك المنطقة، وللتأكيد على عروبتها واسلاميتها، لا سيما وأن المبنى يقابله مقبرة إسلامية اشتهرت بمقبرة أو تربة مأمن الله.
إن السؤال المشروع الذي ينبغي على كل مقدسي طرحه وبإصرار وإلحاح، لماذا لم يتم التوقيع على الإعلان المذكور، في دار رئيس دولة الاحتلال أو في مقر رئيس وزارئه أو في الفندق الذي مكث فيه رئيس الولايات المتحدة؟ ولماذا الإصرار من الجانبين في توقيع الإعلان المذكورفي مقر المجلس الإسلامي الأعلى؟
مما لا ريب فيه، أن هناك دلالت كثيرة للتوقيع في المقر سابق الوصف، لكن أعتقد جازما أن أهمها يتحمور في مسألتين.
الأولى: الرغبة الشديدة من رئيس حكومة الكيان ورئيس الولايات المتحدة، بلفت انتباه أهل القدس خاصة وأهل فلسطين عامة، بأن التوقيع على الإعلان المذكور بعد مرور قرن "100 سنة" من الزمان على تشييد البناء المذكور، وما تخللها من سنوات بمرور 7 عقود على حرب عام 1948، وللتذكير بأن الغُربة وحالة اللجوء التي عاشها وما يزال يتعايشون معها معظم أهل فلسطين بصورة عامة وبعض أهالي القدس خاصة، واستمرار أهل القدس الإشادة بالحاج أمين الحسيني، لا مكان لهما بعد هذه الإعلان، لأن واقع استرداد الأملاك والعقارات في منطقة مأمن الله والأحياء المحيطة بها، مثل البقعة والقطمون وتل البيوت تعتبر بالنسبة لهما مهمة انتهت.
والثانية: أن سياسة الولايات المتحدة تغيرت جذريا، منذ عهد دونالد ترامب الرئيس الأسبق للولايات المتحدة، وأنه على الرؤساء الجدد السير على تلك المنهجية اتجاه القضية الفلسطينية، ضمن خطة تقزيم القضية وتهميشها وعدم إعطائها أهمية في أي موقف دولي.
فكان التغيير الجذري قد حصل، منذ أن قبلت الولايات المتحدة بأن تبني سفارتها في عهد ترامب، وقبلت أن تتجاوز القانون الدولي والاتفاقيات الدولية، والسماح لذاتها ببناء سفارتها على أرض وقف الشيخ شمس الدين محمد الخليلي، وهي أرض وقف ذُري، فلا عجب أن يسير العجوز جو بايدن صاحب الزلات والأخطاء والعثرات منذ توليه رئاسة بلاده على نهج سلفه، وينسف القيمة المعنوية والمادية لعقارعربي إسلامي، من أجل أن يعزز منهجية دولة الاحتلال في التمادي بالاستيلاء على باقي عقارات القدس من خلال الجمعيات الاستيطانية، لا سيما في منطقة باب الخليل على وجه التحديد والاحياء المجاورة لسور القدس كحي الشيخ جراح ومنطقة سلوان.
وبالتالي، ما تضمنه إعلان القدس من ديباجة تفيد: بأن الولايات المتحدة تؤكد على التزامها بالديمقراطية وسيادة القانون، فهو شعار طافح بالكذب والخداع، إذ فضحت أعمال الرئيس الأمريكي ترامب وخلفه بايدن مضمون الإعلان، وأنبأت تلك الأعمال على عدم صدق تلك الجملة.
وبناء على ما تقدم، فإذ كانت سياسة الولايات المتحدة قد أُفتضح أمرها، من خلال الممارسات التي تمارسها على أرض الواقع، فإن ذلك يؤكد بصورة قاطعة كذلك أنها بعيدة كل البعد عن صون الحريات للشعوب والحفاظ على حقوقها، على الأقل من وجهة نظري، وخصوصا بعد أن قامت ببناء سفارتها على أرض موقوفة وقفا ذُريا تعود لعائلة مقدسية، وبعد أن نسفت معايير القانون الدولي ببعض السطور في وثيقة سميت بإعلان القدس، لكن تلك السطور لم تستطع ولن تستطيع أن تمس البعد الديني والقومي لأهل القدس وارتباطهم بأرضهم في منطقة مأمن الله والأحياء المجاورة لها.
فلن تفلح ورقتهم وإعلانهم بمنع أهل القدس، من التمسك بعقاراتهم وبالإشادة بمواقف الحاج أمين الحسيني اتجاه القدس وفلسطين، ولن يضيع حق خلفه جيش من اصحاب الحقوق مطالبين بحقوقهم وحقوق سلفهم الصالح مهما طال الزمان أو قصُر.