خلال سنوات الانقسام الطويلة والمستمرة، طرحت عديد المبادرات، المحلية الوطنية والعربية، الهادفة إلى إنهاء الانقسام، واستعادة الوحدة وإعادة ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني. وقد شارك في اقتراح هذه المبادرات وسطاء عرب وفلسطينيون، وقوى وفصائل سياسية ومؤسسات مجتمع مدني وشخصيات مستقلة وهيئات ذات مكانة اعتبارية مثل هيئات الأسرى، فضلا عن الحراكات الجماهيرية التي تشكلت لهذه الغاية، أو كان العمل لإنهاء الانقسام أبرز مهماتها.
ومع أن هدف إنهاء الانقسام احتل مكان الصدارة في معظم هذه المبادرات، وهو يستحق ذلك، لأنه مفتاح حلّ وتفكيك كثير من المشكلات والمعضلات السياسية والمعيشية، ولأنه المدخل الذي يُمكِّن من إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني، وإصلاح المؤسسات وتفعيلها وصولا إلى تبني استراتيجية وطنية موحدة لإنهاء الاحتلال، والتقدم على طريق انتزاع الحرية والاستقلال الوطني.
لكن مشكلاتنا لم تعد تنحصر في الانقسام السياسي والجغرافي، فنحن نعيش الآن في مرحلة انحدار لا سابق لها منذ عقود، والخطر الآن بات يتهدد الشرعيات التي كُرّست بالكفاح والتضحيات وعشرات آلاف الشهداء والجرحى والأسرى، وينذر بتفتيت الهوية الوطنية الجامعة التي استنهضناها من "رماد النكبة"، ثم تقسيم "الشعب" إلى عدة تجمعات سكانية لكل منها همومه المعيشية الخاصة التي تخاطبها إسرائيل بمعزل عن الهم الوطني الموحد، وصولا إلى غياب السلم الأهلي والأمن الشخصي وشيوع حالة من الفوضى والفلتان برعاية التشكيلات العشائرية والجهوية المسلحة.
من المؤسف أن كل الجهود والمحاولات والمبادرات لم تفلح في إنهاء الانقسام الذي ظل قائما ويتمدد، ويتوسع ليس في الحيز الجغرافي والمؤسسي فحسب، بل في مجال الوعي والثقافة وأنماط السلوك، بل إن هذا الانقسام بات يترسّخ ويتمأسس حتى بدا وكأنه ظاهرة طبيعية وما علينا سوى التعامل مع حقيقة وجودها ومع نتائجها.
الغريب في موضوعنا أن معظم القوى السياسية المسؤولة عن وقوع الانقسام واستمراره تتحدث عن ضرورة إنهائه كأولوية قصوى، وهي استجابت لمختلف المبادرات وثمّنتها ووافقت عليها، وهنا علينا أن نشدد على أن من يتحمل مسؤولية الانقسام ليس الفصيلين الكبيرين فقط، وإنما وبشكل متفاوت جميع القوى والفصائل ومؤسسات المجتمع المدني، ليس لأنها ساهمت في وقوعه بل لأنها، تعايشت مع هذا الواقع الشاذ وعجزت عن التأثير فيه سواء لأنها أوصلت نفسها إلى مرحلة العجز، أو لأنها فضّلت السلامة والانضواء تحت جناح إحد الفصيلين الكبيرين.
يمكن لنا أن نتحدث عن أسباب كثيرة لاستمرار الانقسام، من بينها المصالح التي تكونت وانتعشت في ظله، وهي مصالح مادية ومعنوية، وامتيازات ومواقع نفوذ واستفراد في اتخاذ القرار، ومغريات التخلّص من عبء الشراكة. كما لا يمكن ان نتجاهل التدخلات الخارجية في إدامة الانقسام وأبرزها وأخطرها على الإطلاق هو الدور الإسرائيلي الذي اعترف به نتنياهو حين أقر بان الانقسام، يمثل مصلحة استراتيجية لإسرائيل. وقد ثبت أن هذا الراي ليس مجرد اجتهاد عابر أو موقف حزبي، بل هو موقف مجموع مؤسسات دولة الاحتلال.
من الصعب حصر أضرار الانقسام وعرض نتائجه الكارثية: إن كان على مستقبل القضية الوطنية الفلسطينية ومكانتها، أو على مختلف جوانب الحياة اليومية لملايين الفلسطينيين في الوطن والشتات، ولكن يمكن التدليل على ما وصلنا إليه من نتائج زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن الأخيرة للمنطقة، والتي اختزلت القضية الفلسطينية في بعض الوعود والتسهيلات والمساعدات الإنسانية، وشطبت موضوع إنهاء الاحتلال من أجندة الدولة التي ترعى عملية التسوية المفترضة، بعد أن سلّمت لإسرائيل، ووافقت عدد من دول الإقليم ضمنيا على ذلك، بأن القضية الفلسطينية هي شأن داخلي إسرائيلي تنفرد دولة الاحتلال بإدارته كشأن أمني أولا واقتصادي – إنساني ثانيا.
تلتقي المبادرات الوطنية المطروحة على عدة عوامل رئيسية أبرزها إنهاء الانقسام والاحتكام إلى الشعب من خلال صندوق الاقتراع، ما يؤكد مركزية هذين المطلبين، ولكن يمكن ملاحظة أن المبادرة الأخيرة المعروفة ب"مبادرة للإنقاذ الوطني" والتي طرحتها مجموعة من الشخصيات من مختلف الاتجاهات والمشارب تنطلق من الدعوة لوقف الانهيار، ما يدلّ على أن إنهاء الانقسام ليس ترفا نختاره أو نتجنبه، بل هو طريق إجباري لوقف الانحدار نحو الهاوية. وتنطلق المبادرة من الإمساك بالقواسم المشتركة، وتطرح رؤية جريئة في الدعوة إلى تغيير النظام السياسي الفلسطيني ليس من خلال الانقلاب عليه، بل عبر التمسك بمنظمة التحرير الفلسطينية، وإشراك جميع القوى القائمة مع الاعتراف بنشوء وتكوُّن قوى جديدة في المجتمع الفلسطيني ينبغي إشراكها في مهمة إعادة بناء المؤسسات الوطنية من بوابة الانتخابات الشاملة.
مشكلة معظم المبادرات التي طرحت سابقا، أنها قدّمت "نصوصا" جيدة، وافتقدت إلى الآليات العملية لترجمة النصوص إلى فعل على أرض الواقع، وبالتالي ظلت حبيسة الأدراج والمنشورات. مبادرة الإنقاذ تقترح آلية عملية هي تشكيل هيئة انتقالية مؤقتة لمدة عام تشرف على إجراء الانتخابات، وتقترح صيغة واقعية لتشكيل المجلس الوطني الفلسطيني تأخذ بالانتخاب المباشر، وتمثيل الاتحادات الشعبية ومخيمات الشتات والجاليات، وهي لا تنكر حق القوى التي لا تشارك في الانتخابات لأسباب وقناعات سياسية في أن تتمثل وفق صيغة متوافق عليها في المجلس الوطني المعاد تشكيله.
ولكي تتحول هذه المبادرة إلى قوة عملية مؤثرة يجب نقلها من المكاتب والمنتديات إلى الشارع والمجتمع، وتمليكها لأصحاب المصلحة الحقيقية في إنهاء الانقسام وإعادة بناء النظام السياسي على أساس ديمقراطي، وعلى نحو يساهم في استعادة حيوية الشعب وقواه الفاعلة في النضال من أجل الحرية والاستقلال، ولذلك لا بد من نقل هذه المبادرة للشباب والروابط والاتحادات والنقابات العمالية والمهنية والنسوية، ولجموع اللاجئين في الوطن والشتات، وأطر الجاليات في المهجر، وتشكيل حالة ضغط متواصلة ومتنامية على كل دوائر اتخاذ القرار.