الكثيرون في عالم اليوم ما زالوا يرون في الولايات المتحدة قوة «غير قابلة» للتراجع أو الكسر، بل وحتى ما زالوا يعتقدون أنها غير قابلة للضعف والوهن، أو التنحّي عن «عرش» قيادة العالم.

وفي الإقليم العربي فإن هؤلاء هم الحالة السائدة على المستويات الرسمية، وعلى مستويات شبه رسمية، وأحياناً على مستويات «شعبية»، أيضاً.

وسواء كان منطلق كل هؤلاء هو المصالح والارتباطات، أو المخاوف من «التورّط» في مواجهات مباشرة مع الولايات المتحدة، ومع إسرائيل كجزء عضوي من «الحالة الأميركية» في كامل الإقليم، أو سواء تعلّق الأمر «بنجاح» الغرب في «كيّ» الوعي الوطني والقومي عند بعض القوى السياسية، ولدى بعض القطاعات الشعبية، فإن فكرة «ترجّل» الولايات المتحدة أو تنازلها طوعاً عن قيادة هذا العرش هي فكرة مستحيلة، في حين أن دخولها في الممرّ الإجباري لهذا التنازل ما زال بعيداً ومستبعداً، أيضاً، كما يرى كل هؤلاء.

مقابل هذه الصورة توجد صورة أخرى ترى أن «العصر الأميركي» بدأ بالتصدّع، والهيمنة المطلقة للولايات المتحدة باتت مهدّدة من قبل القوة الاقتصادية للصين وبعض البلدان الصاعدة، ومن قبل القوة العسكرية لروسيا والعودة إلى السيطرة على مجالها الحيوي بالاتجاهين الأوروبي والآسيوي، وباتجاه «المياه الدافئة»، أيضاً، وهناك من يرى أن روسيا ستصل إلى «تحالفات» غير مسبوقة مع بلدان العالم الصاعد والنامي، ومع مستجدات السياسة في أميركا الوسطى والجنوبية.
الولايات المتحدة «تنبّهت» بصورةٍ لا تقبل الجدل إلى كل هذه المتغيرات، وشرعت مباشرة بإعادة تجميع أوراقها باتجاه الذهاب إلى «هناك» لمواجهة الصين، ومن هناك دخلت الولايات المتحدة في «عصر» المراهنات الكبرى، ومن هناك، أيضاً، انطلق ترامب على طريقته الخاصة حتى جاء بايدن ليجد الولايات المتحدة «عالقة» في استراتيجية جديدة قوامها الانتقال من (أميركا أولاً، إما معي أو ضدّي، وإن كنت معي فعليك أن «تشارك» معي كل الأعباء)، وهي «الاستراتيجية الترامبية»، إلى.. (عليك أن لا تظلّ قوياً إلّا بقدر ما تريده الولايات المتحدة، وعليك أن لا تظلّ موحّداً إلّا بقدر ما تكون وحدتك تابعة للاستراتيجية الأميركية).
هذه هي استراتيجية الولايات المتحدة ــ استراتيجية المراهنات الكبيرة ــ الجديدة لإعادتها إلى عصر السيطرة والتحكّم والهيمنة قبل فوات الأوان.. ومن أجل التقليل من مخاطر تحوّل المراهنات إلى مغامرات (مع أن كل مراهنة تنطوي على درجة أو أخرى من المغامرة) لم يبدأ الرئيس بايدن من هناك (حيث كان قد رحّل أوباما غالبية أوراقه وأدواته)، وإنما اختار أن يبدأ من روسيا وليس من الصين.
اعتقد بايدن وإدارتُه أن روسيا ليست في وضع يمكّنها من «الصمود» أمام «حتمية» قيامها بعملٍ عسكري في أوكرانيا، حيث «كانت هذه الإدارة تعرف أن روسيا تعرف أدقّ تفاصيل الدعم الغربي للجيش الأوكراني، وكذلك الخطط الأوكرانية للهجوم على الدونباس، وبل الخطط الخاصة (باسترجاع القرم)، هذا إضافة إلى أن بايدن راهن على أن من شأن اللعب على ورقة «التدخّل الروسي» في الانتخابات الأميركية أن تساعده على تسويق مراهناته ضد روسيا بالذات.
اعتقدت إدارة الرئيس بايدن أن «استجرار» روسيا إلى حربٍ في أوكرانيا «سيعطّل» الاعتماد الأوروبي على روسيا، وارتهانها لتوريدات الطاقة منها، واعتقدت كذلك أن «وحدة» أوروبا ستؤدي إلى أن تدفع أوروبا الثمن الرئيسي للحرب، وزيادة ارتهان القرار الأوروبي للولايات المتحدة، خصوصاً وأن أوساطاً متنفذة في الولايات المتحدة كانت على قناعةٍ تامة بأن تشغيل (غاز بروم 2) سيجعل فك الارتباط بين الاقتصاد الروسي والاقتصاد الألماني، ومن خلفه الأوروبي أمراً متعذّراً بقدر ما هو مستبعد وصعب، بل وربما مستحيل.
أي بمعنى آخر راهن بايدن على البدء من الخطر الداهم، وليس الخطر الأكبر والدائم.
تعثّرت مراهنة بايدن بالرغم من هستيريا العقوبات، وعندما ارتدّت على اقتصاديات الغرب نفسه، وتعثّرت هستيريا «الدعم العسكري» لأوكرانيا بعد أن تحولت شرق أوكرانيا وجنوبها إلى مناطق في دائرة السيطرة الروسية، وبعد أن «اكتشفت» الولايات المتحدة استحالة تحقيق أي تقدم يُعتدّ به عسكرياً، وبعد أن فقدت أوكرانيا المناطق التي تمثل مخزونها الأساسي من الثروات والصناعات التي تتركز في شرقها وجنوبها.
لم تتعثّر الاستراتيجية الأميركية فقط وإنما تحوّلت فعلاً إلى مغامرة كبيرة وصلت إلى دقّ ناقوس الخطر إزاء أزمات طاقة كبيرة، ستفضي إمّا إلى الركود الطويل وقد تتحول إلى طور الكساد، أو إلى أزمات جديدة ومتلاحقة، سياسية واجتماعية ستضرب أوروبا كلها، وستطال الولايات المتحدة وبقية دول العالم، خصوصاً بعد فشل بايدن في الحصول على ضمانات بزيادة إنتاج النفط من الشرق الأوسط، وبعد أن عبّرت البلدان المنتجة للنفط بعدم الخروج عن تحديدات منظمة «أوبك +»، إلّا بما هو هامشي وما هو خارج دائرة التأثير على الأزمة المستفحلة.
بات سقوط الحزب الديمقراطي في الانتخابات النصفية القادمة في الخريف أعلى من مجرّد التوقع، ما حرك وفعّل بعض الأوراق التي يعتقد الرئيس بايدن أن من شأنها «إحياء الآمال» باستعادة المساحات الواسعة التي فقدها الحزب الديمقراطي تمهيداً للانتخابات النصفية.
إحدى هذه الأوراق هي أيمن الظواهري، الذي كانت الولايات المتحدة تعرف مكان إقامته، وكانت تعرف قبل ذلك أنه لا يمكن إلّا أن يكون هناك، وكانت تعرف أكثر أن وجوده هناك هو أقرب إلى الملاذ والملجأ أكثر منه قاعدة ارتكاز لأعمال إرهابية جديدة.
تنظيم القاعدة القديم لم يعد قائماً، ولم يعد له نفس القدرات، وليس لديه نفس التوجهات، وقد تحلل وتحول إلى «قاعدات» متناثرة، ومنها ما تحول إلى «حليف» للولايات المتحدة ولإسرائيل في سورية، ولذلك كله فإن امتلاك ورقة الظواهري هي مسألة انتخابية بامتياز، وليس فيها أي بُعد استراتيجي من أي نوعٍ كان.
أما زيارة السيدة بيلوسي لتايوان فهي استعراض استفزازي ليس له أي قيمة إلّا بقدر ما يمكن أن يترتب على الولايات المتحدة من خسائر كبيرة قد تصل إلى مستوى الخسارات الاستراتيجية.
الخسارات ستكون كبيرة لأن الولايات المتحدة لا تستطيع الاستناد إلى أوراق جدية وقوية في كامل منطقة بحر الصين الجنوبي، والصين هي صاحبة اليد الطولى هناك، وهي تسيطر عسكرياً على كامل سلسلة الجزر العسكرية التي أقامتها الصين في البحر، والتي من خلالها تتحكّم بالممرّات المائية، والتي تعتبر ثاني أهم الممرّات الدولية للتجارة الدولية، إذ تقدر قيمة التجارة الدولية التي تمر من هناك بأكثر من خمسة تريليونات دولار سنوياً.
ستعزّز الصين بعد زيارة بيلوسي من تواجدها هناك، وستحاول الإطباق على تايوان، وسترفع من درجة تهديدها لهذه الأخيرة، بل ويمكن أن تحاول خنقها اقتصادياً قبل أن تلجأ لتوحيدها بالقوّة.
لم «يتفهّم» أحد في هذا العالم هذه الزيارة، بل ان الاتحاد الأوروبي نفسه أعاد التأكيد على مبدأ الصين الواحدة.
مراهنة تتحوّل إلى مغامرة أكيدة بأن يتحول الحلف الروسي الصيني إلى ضرورة معلنة، وبذلك تفقد الولايات المتحدة والغرب كله زمام المبادرة، وسيكون أمام العالم الفرصة التاريخية الجديدة لإقامة علاقات مع كل الأطراف دون إجبار أو ابتزاز أو هيمنة.
أميركا والغرب يخسران المراهنات لأن جرعة المغامرة في هذه المراهنات كبيرة، وقد تكون سامّة وقاتلة.