قال ساخراً: «أنا سعيدٌ بإعلان نتائج الثانوية العامة، فنحن، الفلسطينيين، منقسمون سياسياً واقتصادياً وجغرافياً، ولنا نظامان وزاريان مختلفان، وها نحن (نتوحَّد) في إعلان نتائج (التوجيهي)، أليس ذلك إنجازاً يستحق الاحتفال؟! حتى وإن كانت هذه الوحدة مفروضة علينا من الخارج، لأن أهم شروط قبول طلابنا في جامعات العالم أن يكون لنا ختمٌ واحد، ووزارةٌ واحدة، ونظام تعليمي موحّد. إذاً، يجب أن نرفع شعاراً وطنياً فلسطينياً جديداً، يمكن أن نحوّله فيما بعد إلى حزب سياسي، شعاره (التوجيهي لإنهاء الانقسام؟)»!
سنظل، نحن الفلسطينيين، أسرى طقسٍ قبلي وهو الاحتفال بنتائج التوجيهي، واعتبار المتفوقين رمزاً لرفعة العائلة والقبيلة، ونسبة النجاح تاجَ فخرٍ واعتزاز للأسرة والعائلة والمكان.
لم نكتفِ بما سبق، بل سخَّرنا إعلامَنا وكلَّ وسائل التواصل الحديثة في انتظار أكبر الأحداث وأهمها، ليس لإعلان استقلال فلسطين، بل لإعلان نتائج التوجيهي، وبعد ثوانٍ من إعلانها بدأتْ حروب الشوارع، بالمتفجرات المرعبة! كل ذلك أنسانا ما فعلناه بأبنائنا الطلاب، جعلناهم يعيشون حالة رعب نفسية من نتائج مباراة نهاية كأس التوجيهي، ودفعناهم إلى الإيمان بأن تفوقهم ليس ملكاً لهم، بل تاجٌ للأسرة والقبيلة، أما فشلهم فهو حكمٌ بإعدامهم!
ما أكثر الذين يتعاطفون مع هذا الحدث من منطلق اعتقادهم أن ما يجري أمر محببٌ يساعد على تنفيس الاحتقان، وإنتاج الفرح في وسط مليء بالمعاناة والألم! أما الغالبية العظمى فإنها ترفض عربدة الحائزين على حزام (بطولة) التوجيهي! وتعتبر ما يجري دليلاً على التخلف؛ لأن الفرح الصحي المحبوب يعني أن يسعد الناجحون بسعادة محيطهم، أما الفرحُ المكروه - وهو الأوسع انتشاراً - يتمثَّل في إزعاج المحيطين بقاصفات الآذان، وفرق (الفدعوس) المستأجرة والمتفجرات المرعبة، هذا الفرحُ فرحٌ مَرَضيٌّ نفسيٌّ خطير!
مع العلم أننا لا نحتفل بشهادة الماجستير والدكتوراه وحتى درجة الأستاذية؛ لأن هذا الاحتفال غير مُبرمجٍ في سجل تقاليدنا العائلية والقبلية، لذا، فإنه يمرُّ علينا مروراً عابراً!
كثيرون أيضاً لا يزالون يعتقدون أن النسب المئوية للنجاح رمز من رموز رفعة الأسرة وذكاء السلالة والعرق، على الرغم من أنهم - هم أنفسُهم - يؤكدون صباح مساء أن نظام التعليم المعتمد في وطننا نظامٌ تقليدي عقيم لا يُلائم العصر، فالمناهج الدراسية مناهج حشوية تعتمد على الحِفظ، تحشو العقول ولا تُنيرها، وأنَّ معظم المتفوقين ليسوا مبدعين، بل بارعون في إعادة كتابة سطور الكتاب المدرسي بدقة وعناية، وهم بالضبط آلات تسجيل إلكترونية تخلو من الإبداع الشخصي!
يضاف إلى ما سبق أنَّ هناك تقليداً فلسطينياً وعربياً خطيراً، وهو أنَّ المسؤولين والآباء والتربويين اعتادوا أن يرسلوا (نابغي) التوجيهي إلى خارج الوطن، وكأنهم يقولون: إن تفوقهم خسارةٌ في وطنهم، حيث يشاركون في بناء تلك الدول، ويتذكرون أوطانهم فقط عندما يحصلون على إجازة! مع العلم أن نظرية الابتعاث إلى الدول الأجنبية كانت محبوبة في القرون السالفة، قبل الألفية الثالثة، عندما كانتْ غايةُ الابتعاث إلى الخارج اكتسابَ الخبرات لتوظيفها في خدمة الوطن، فكان الطالبُ المبعوث يوقّع التزاماً بالعودة إلى الوطن، أما مبعوثو اليوم فمعظمهم يرفس الوطن ويغادره إلى الأبد!
أخيراً، تخلّص كثيرٌ من دول العالم، وبعض دول العرب، من أعراض مرض التوجيهي، حيث حولوا التعليم الثانوي إلى نظام جامعي، وفق نظام الساعات المعتمدة، وألغَوْا الموعد المحدد للامتحانات، وألغوا كرنفالات النتائج، ومنحوا الطلاب فرصة اختصار مرحلة السنوات الثانوية الثلاث من العاشر حتى الثاني عشر، إلى سنتين فقط حسب جهد الطالب وكفاءته، وأزالوا نهائياً رعبَ مرحلة التوجيهي من نفوس الأبناء والأسر.
تذكروا أن أنظمة العالم منحت الجامعات الفرصة لاختيار طلابها قبل إنهاء مرحلة الثانوية، إذا لمست فيهم النبوغ والتفوّق!