لقد حلت علينا اليوم الرابع من اَب ذكرى ميلاد الزعيم ياسر عرفات ، ذكرى قصة قضية وكفاح شعب ، ذلك القائد والرمز الذي قل نظيره ، ف
لقد قاد الثورة الفلسطينية ما يقارب نصف قرن في زمن العمالقة والقادة المؤسسين لحركات التحرر العالمية .
فقد قاد أبو عمار حركة "فتح" كعمود فقري للثورة ولمنظمة التحرير في احلك الظروف وتعقيداتها ، والتي تحتاج اليوم إلى فعل التجديد والوخز للتخلص من بعض مظاهر سباتها بهدف استنهاضها وديمومتها كحركة تحرر وطني لم تنجز أهدافها بعد . وحّول ابو عمار القضية الفلسطينية من قضية لاجئين الى قضية شعب له حقوق سياسية تاريخية وقانونية ، الحق بالعوده وتقرير المصير وقيام الدولة المستقلة وعاصمتها القدس ، في وقت اختلف عدد من ابناء شعبنا وقياداتنا معه لكن دون ان يختلف احد عليه كأبٍ للوطنية الفلسطينية الحديثة .
لقد وضع أبا عمار القضية الفلسطينيه في قلب المشهد الدولي وترك لنا ارثه ووصيته بأن الحقوق ثابته ولا تفريط بها ، وأن الضوء يظهر في نهاية النفق ، وبانه ليس منا وليس فينا من يفرط بذرة من تراب القدس ، فرددنا نحن معه دائما ، بأن العهد هو العهد والقسم هو القسم ويا جبل ما يهزك ريح .
لقد أعتقد ياسر عرفات انه باتمام اتفاقية أوسلو الانتقالية سيحمي منظمة التحرير الفلسطينية بعد المتغيرات الدولية التي كانت قد بداءت بالتبلور نحو نظام احادي القطب بعد انهيار الاتحاد السوفيتي الذي وقف إلى جانب الثورة الفلسطينية وساندها في كل مراحلها ، إضافة إلى المتغيرات التي عصفت بوحدة الموقف العربي إزاء حرب الخليج ودخول القوات العراقية إلى الكويت انذاك وموقف التضامن مع العراق الذي اعلنه أبا عمار في حينه وما كان له من تداعيات ، هذا إضافة إلى اعتقاده بفرصة تحقيق ضرورة الانتقال بمركز القرار والقيادة إلى داخل الوطن بعد عقود من التشتت والتاَمر على القرار الوطني المستقل التي عانت منه المنظمة لأسباب مختلفة لفترات طويلة بحكم وجودها بالخارج ودفع مناضلينا فاتورة غالية من أجل الحفاظ عليه .
لقد أعتقد الرئيس المؤسس بامكانية تكرار وتسخ تجربة بن غوريون ( دون تشبيه) الذي نجح بإقامة دولة الاحتلال الاستعماري ، على حساب حقوق شعبنا صاحب الأرض ، داخل كيان الانتداب البريطاني الذي كان قائما في ذلك الزمن في كل فلسطين ، أو تجارب قادة ثوريون حققوا نجاح ثوراتهم الوطنية لكن في ظل ظروف غير مشابهة .
فكان هاجزه هو إقامة اسس الدولة الوطنية المستقلة وتجسيدها على الأرض حتى ولو كانت أجزاء منها ما زالت تحت الأحتلال ومن خلال فعل التدرج بنقل السلطة القائمة بفعل الاحتلال إلى سيطرة السلطة الوطنية الفلسطينية على كل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ٦٧ بما فيها القدس نحو التخلص التدريجي من الأحتلال وإخراج شعبنا من مسلسل القهر والاضطهاد المستمر وحماية الأرض من التوسع الاستيطاني .
فعمل على عودة عشرات الآلاف من ابناء شعبنا إلى الداخل في تكريس لحق العودة من وجهة نظره حتى ولو لأراضي السلطة الوطنية وعمل على فرض الاحترام الدولي لمكوناتنا الوطنية والبروتوكولات الدولية المعمول بها بين الدول .
كان ذلك نابع من الفكر الوطني البرغماتي القائم على الواقعية السياسية والمستند الى البرنامج المرحلي لمنظمة التحرير الذي دافع عنه الزعيم الراحل وايمانه بسياسة تحقيق المراحل وإقامة السلطة الوطنية على اي جزء يتم تحريره بعد ان ادرك حقيقة كافة المواقف العربية وجوهر التحولات الدولية التي أتت بالهيمنة الأمريكية ليس على المنطقة فحسب لكن على النظام الدولي بشكل عام ، وقرائته لمستقبل العالم العربي والرؤية الأمريكية للمنطقة في غياب قطب اخر ، والتي ثبت تحقيقها بعد رحيله ، وانتهاء مفهوم مجموعة دول عدم الانحياز وبداية افول شعلة حركات التحرر العالمية التي كانت قد حققت برامجها بالاستقلال الوطني لشعوبها بدعم من القطب المنتهي انذاك الاتحاد السوفيتي .
فمن رماد النكبة نحو نور الثورة حمل أبا عمار غصن الزيتون في يد والبندقية في يد أخرى مخاطبا العالم بعد تحقيق مكانة وحدانية تمثيل منظمة التحرير لشعبنا الذي أقره العرب والعالم سواء . فانطلق يجول العالم شرقا وغربا لتثبيت هذه المكانة في كل دول العالم لحصد التضامن مع حقوق شعبنا بالحرية والاستقلال الوطني ، ولاحقا من أجل الاعتراف بالدولة وفق اعلان الاستقلال بالمجلس الوطني عام ١٩٨٢ وفق الرؤية الفلسطينية للسلام .
تنقل مع المناضلين من قوات الثورة بعد الخروج القصري من بيروت في بداية مرحلة جديدة إلى تونس التي قال في حينها انه متوجها منها إلى فلسطين ، فتم له ذلك وفق اتفاق أوسلو الذي لست في صدد نقاش سلبياته وايجابياته هنا بهذه العجالة في ذكرى ميلاد الرئيس المؤسس .
فأخذ في بناء مؤسسات السلطة وحقق انتقال الشرعية الثورية الى شرعية الانتخابات الديمقراطية وكأنها دولة وفق اعتقاده التي كان يسعى الى تحقيقها من خلال هذه المحطة الإجبارية نحو الدولة ذات السيادة كما كان يؤمن ، فكان يراها قريبة كما كان يردد .
لكن العقول الصهيونية كانت تخطط لمسار اخر هدفت منه انهاء دور منظمة التحرير وتراثها الكفاحي ومحاصرتها في بقعة جغرافية . فحتى اليوم لم يتحقق حلم ياسر عرفات بالحصول على دولة كاملة السيادة ومستقلة ، رغم ما استكمله الاخ الرئيس أبو مازن من استمرار للمسيرة وفي بناء للمؤسسات بشكل او باخر في ظروف معقدة دولية منحازة ومنافقة بازدواجية معايير الغرب وداخلية بفعل الانقلاب الذي غيب عمدا الوحدة السياسية والاليات الديمقراطية في مسعى لخدمة أهداف حركة الاخوان المسلمين ومن يقف ورائها والى جانبها ، فتعثرت الوحدة والحياة الديمقراطية ما أضر بالمصلحة الوطنية وحضورنا أمام العالم ، حيث كان البعض ينتظر هذا العذر ليعيق مسار مساعدته .
ورغم زيادة الحصاد الدولي بالاعتراف ، فقد تعرض شعبنا وقيادته لضغوط جديدة لم تفلح ، لوقف التوجه للأمم المتحدة وتجميد الانضمام للوكالات الدولية، وخصوصا "محكمة الجنايات الدوليّة"، وبهدف عدم التوقيع على الاتفاقيات الدوليّة لان هذا الانضمام وذلك التوقيع يوفر لنا مزايا سياسية وقانونية وأخلاقية من شأنها تقوية مواقفنا ودعم نضالنا لتحقيق أهدافنا الوطنيّة والوصول إلى الاعتراف الدولي الكامل بدولتنا حتى ولو تحت الاحتلال نحو الاستقلال الوطني ، إضافة إلى أعمال التهويد وتغير الوقائع على الارض من خلال الضم والتوسع الاستيطاني والجرائم اليومية بحق شعبنا .
وباتت واضحة معالم ونوايا الحركة الصهيونية وحكام النظام الفاشي باسرائيل خاصة بعد اغتيال عصابة دولتها العميقة لرئيس وزرائهم انذاك إسحق رابين وتنكرها حتى اليوم لكل الاتفاقيات الموقعة وحتى منها التي كانت برعاية دولية ومن ضمنها اتفاقية أوسلو وبما تحمله من نصوص في جزء منها مجحفة.
فعادت دولة الاحتلال إلى نهجها ان لم يكن قد استمرت به بخبث وتخطيط في إعادة احتلال المدن وفق تقسيمات الخارطة التي رسمتها اتفاقية أوسلو التي لا يمكن أن نحاكمها بفعل ظروف اليوم المتغيرة رغم عدد من التحفظات عليها ، وحاصرت الزعيم في مقره حتى تخلصت منه بالقتل المتعمد بتوافق مع بعض أطراف العرب والعجم في سؤ إدراك منها انها تستطيع تغير عجلة التاريخ وتركيع شعبنا وفرض الاستسلام عليه وفق شروطهم ، فكان لها ما لم ترغب به وما خططت له ، واستمرت منظمة التحرير والحكومة الفلسطينية بالتمسك بنفس وذات الرؤية بدحر الأحتلال في ظروف دولية انحاز الغرب فيها لعدم الجدية في تحمل مسوؤلياته السياسية والاخلاقية والقانونية ، الأمر الذي أدى الى استدامة الأحتلال دون أدنى عقوبات دولية أو محاسبة .
واليوم وفي ظلال ذكرى مولد الزعيم المؤسس ، وبعد كل تلك العقود ، علينا أن ندرك حقيقة ان إسرائيل وبعد ان أقيمت تحقيقا لمشروع استعماري وكاداة لاطماع وهيمنة الغرب بمنطقتنا ، وعلى مدى كل تلك العقود من السنين ترفض أن تكون طرفاً في الوصول الى تنفيذ الخيار الدولي المتمثل بحل الدولتين ، وذلك وفق كل مواقف الحكومات المتعاقبة فيها ، بل وتُصعد من اضطهادها وقهرها لشعبنا بكافة الوسائل وتزيد من توسعها الاستيطاني وضم الأراضي واجراءات التهويد ، وصم اذانها لكل الدعوات الفلسطينية ورؤية منظمة التحرير لضرورة انهاء الأحتلال والاستيطان تحقيقا للسلام ، وفي استمرارها حتى في رفض اساسي لفكرة الدولة المستقلة ذات السيادة على ٢٢% فقط من اراضي شعبنا التاريخية بما يحمله ذلك حتى من ظلم لحقوقنا التاريخية .
ببساطة ، لانها تُعرف نفسها كدولة يهودية قبل ان تكون "ديموقراطية" ، فهي تمارس الفوقية اليهودية والتمييز العنصري إلى جانب الأحتلال الاستيطاني ، فكل شبر من فلسطين التاريخية تعتبره مقدساً وفق الرؤية التوراتية للحركة الصهيونية وأمنياً في أنٍ واحد لحماية توسعها كمبداء في إقامة كيانها الذي لا تُعرفهُ حدود لتحقيق مشروعها الاستعماري على حساب حقوق شعبنا الفلسطيني صاحب الأرض وعلى حساب القانون الدولي وكل المواثيق الأممية ، أن الاستقرار والسلام يُرهبها ولا يحقق لاِجماع ووحدة الحركة الصهيونية مبتغاها وديمومتها .
ولذلك ولتلك الأسباب وغيرها لن يصل هذا المجتمع الاستعماري "الإسرائيلي" اليهودي الذي لا يحمل صفة مكونات شعب إلى النتيجة والقناعة التي وصلت لها بالتاريخ شعوب ودول استعمارية أخرى بالمدى القريب ، الا اذا كان استمرار استعماره الاحتلالي مكلفاً من كل الجوانب الدولية والمحلية ويُعرض وحدته إلى الخطر والى تفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية الداخلية كما والى حالته الوجودية ، خاصة في ظل المتغيرات الدولية الجارية اليوم نحو آفاق نظام دولي جديد ، وزيادة حجم الادانة من شعوب العالم المختلفة لاستمرار الاحتلال ومفاهيم الابرتهايد وصمود شعبنا ومقاومته الشعبية رغم كل تلك الآلام.