سأبدأ بالقول، إن كل من يخوض حرباً لأسباب انتخابية يكون قد غامر بكل شيء بما في ذلك، وربما قبل كل شيء، بالانتخابات نفسها.
طبعاً كل شيء سيعتمد على نتائج هذه المواجهة في القطاع كما هي على إسرائيل.
من المؤكد أن حكومة الاحتلال لا يمكنها شنّ هذه الحرب دون "غطاء" أو أكثر، ودون أن يكون لديها من الاعتبارات التي تساعدها، أو حتى تمكنها من الإقدام عليها، كما أنها ــ حكومة الاحتلال ــ لا بدّ وأن لديها من الأسباب والاعتبارات التي تجعل من شنها على القطاع أمراً متقبّلاً ومقبولاً من المجتمع الإسرائيلي أوّلاً، ومن المحيط الخاص على مستوى الإقليم، وعلى المستوى الدولي، أيضاً.
اختارت إسرائيل "هدفها" بعناية فائقة، واختارت التوقيت بعناية أكبر، ومراهنة على بعض التقديرات لديها، وخصوصاً نقاط القوة التي لديها في هذه المواجهة، وكذلك نقاط الضعف التي تراها عند وفي دائرة الهدف الذي حدّدته بدقّة.
أرادت إسرائيل أن تخلق انطباعاً قوياً ومباشراً بأن هذه الحرب هي حرب على إحدى "أذرعة" إيران، وذلك على مستوى "التسويق" الخارجي، وأرادت أن تظهر لسكان "الغلاف" بأن الأمر يتعلّق بحل جذري "لمشاكلهم"، وأرادت من خلال ضرب واعتقال نشطاء حركة "الجهاد" في الضفة والتركيز الشديد عليهم أن "تمنع" نقل المواجهة إلى الضفة "أثناء" سير العمليات العسكرية على أقلّ تقدير، وأرادت من خلال الاغتيالات أن تخيف قيادات حركة حماس من عواقب "الالتحاق" والمشاركة المباشرة والجدية في الردّ على العدوان الإسرائيلي، كما خططت إسرائيل على مستوى الصورة والانطباع إلى تحطيم نتائج معركة الشيخ جرّاح، وخصوصاً حالة الوحدة التي تجلّت بين كل تجمعات الشعب الفلسطيني في كل فلسطين وفي الشتات، أيضاً.
يُضاف إلى كل ذلك أن حكومة الاحتلال راهنت على أن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في القطاع بعد "تثبيت" تهدئة غير معلنة، وبعد مرحلة من التسهيلات الاقتصادية، وإعطاء، أو الوعود بإعطاء الآلاف من تصاريح العمل ستصعّب على حركة الجهاد الإسلامي الاستمرار في معركة طويلة يمكن أن تكون انعكاساتها ــ في مثل الحالة ــ عكسية على إسرائيل، إن كان على مستوى الخسائر الاقتصادية والمادية، أو على مستوى "صمود" سكان الغلاف والعيش لمدة طويلة في الملاجئ، أو حتى على مستوى البعد النفسي على كل المجتمع الإسرائيلي في حال طالت المدة الزمنية، واستمرت حالة الترقب والاستنفار. هذا بالإضافة طبعاً إلى المخاوف من تنامي التعاطف الجماهيري العربي والدولي، وما يمكن أن يحمله مثل هذا التعاطف من أخطارٍ قد ينسف كل الأهداف التي خططت لتحقيقها.
أقصد من كل هذا الإسهاب أن في جوهر الخطة الإسرائيلية من هذه الحرب يوجد هدف كبير وهو إحداث خلخلة حقيقية في معادلة التوازن الداخلي لصالح حكومة لابيد ومكوّناتها، وهي حرب استباقية للصراع الداخلي في إسرائيل، ولكنها مغلّفة بعناية بكل ما أتينا عليه من مراهنات واعتبارات ومن رغبات، أيضاً، إضافة إلى الرسائل التي تحاول إسرائيل أن تبعث بها إلى "حزب الله" وإيران وإلى كل من يهمّه الأمر.
فهل ستنجح الخطة الإسرائيلية هذه المرّة؟، وإلى أي حد يمكن أن تنجح؟
والسؤال الأهمّ: هل ستفشل هذه الخطة؟ وبأي المعاني يمكن أن تفشل؟ وماذا إذا فشلت فعلاً؟ وما الذي سيترتب على مثل هذا الفشل؟
صحيح أن الإجابة عن كل هذه المسائل ــ وهي بحكم الواقع الذي ينطوي عليها، أو الذي سينجم عنها ــ هي مسائل أكثر منها أسئلة.. صحيح أن الإجابة صعبة ومنذ الآن، لاسيّما وأن الكثير من الإجابات ما زال برسم سير الأحداث، إلّا أن الأمر يستحق المحاولة.
برأيي المتواضع أن النجاح الإسرائيلي بات مرهوناً بأربعة عناصر أساسية، وبتفاعل علاقات التأثير والتأثّر فيما بينها!
الأوّل، إذا تمّ وقف العملية قبل أن تتمكن حركة "الجهاد الإسلامي" من ضرب أهداف نوعية من شأنها تبديد وتبهيت (الصورة والانطباع) الذي تحرص حكومة الاحتلال على إبقائها في واجهة المشهد.
والثاني، إذا انتهت الأحداث قبل تصدّر وحدة الشعب الفلسطيني بين كل تجمّعات الشعب الفلسطيني المشهد السياسي والكفاحي، والانخراط الشعبي الكبير في معركة الانتصار لقطاع غزة كما هبّت هذه التجمعات إبّان معركة الشيخ جرّاح.
والثالث، إذا بقي الاستفراد الإسرائيلي بـ"الجهاد" على ما هو عليه، وإذا ما تمّ تصوير هذا الاستفراد وكأنه "حكمة" و"تعقّل" لا بدّ منها!
وأمّا الرابع، إذا قبلت الحركة الوطنية الفلسطينية، وفصائل المقاومة في غزة معادلة أن يقوم كل تجمع من هذه التجمعات بتحديد اعتباراته الخاصة في معركة وطنية مصيرية من نوع المعركة التي تدور رحاها الآن.
إذا ما تمّ كل ذلك فهذا يعني أن إسرائيل قد نجحت، وهذا سيعني نجاح مخطط حكومة الاحتلال في "معركتها" الأساسية في معادلة الصراع السياسي في إسرائيل.
لكن أيّ إخفاق في أحد هذه الأمور سيقلل كثيراً من درجة النجاح، وإذا طال هذا الإخفاق أكثر من جانب واحد فإن النجاح يصبح من دون قيمة حقيقية.
أما إذا امتدت العمليات لفترة طويلة نسبياً، وهبّت التجمعات الفلسطينية في كل مكان وتوحّدت على مشروع الدفاع عن غزة، وأحبطت مخطط الاستفراد به، وازداد التضامن الشعبي العربي مع الحالة القائمة، وبدأ التعاطف الدولي يلعب دوره السياسي من جديد فإن الفشل الإسرائيلي سيصبح حتمياً.
هذه ليست معركة جانبية، وهي ليست مجرد معركة لأن المستهدف منها هو المعلن بكونه يتمثل بحركة "الجهاد الإسلامي"، وليس كل الظاهرة العسكرية في القطاع، لأن الأهداف الحقيقية لها أبعد من ذلك، وهي أهداف أكبر بكثير من فصيل، وأبعد حتى من القطاع على الأقل من حيث ما يمكن أن يترتب عليها من نتائج إن كان على الشعب الفلسطيني، أو على التوحُّش الإسرائيلي لاحقاً.
إذا فشلت إسرائيل في هذه الحرب فستكون أكبر إخفاقاتها في العقود الأخيرة، وستكون قدرتها على الردع قد وصلت إلى الحضيض، وستكون صورتها كوكيل أمني للإقليم قد تهشّمت تماماً، وسيدخل مجتمعها في أزمة من طور جديد لا سابق له منذ قيام الدولة الإسرائيلية، ولن يتبقّى أمامها ــ على ما أظنّ ــ سوى مقايضة وجودها نفسه، وحينها لكل حادث حديث.