بعد خمسين ساعةً من القتال والقصف المتبادل، أدت إلى سقوط 45 شهيدًا، نصفهم من الأطفال والنساء، و360 جريحًا، تم التوصل إلى وقف لإطلاق النار في قطاع غزة؛ حيث تعهدت مصر بالإفراج فورًا عن الأسير المضرب عن الطعام خليل العواودة، والإفراج عن الأسير القائد بسام السعدي في أقرب وقت ممكن .
وتأتي هذه الجولة من التصعيد التي أطلقت عليها الجهاد الإسلامي اسم "وحدة ساحات"، استمرارًا للعدوان الذي يمارسه الاحتلال ضد قطاع غزة المحاصر منذ 15 عامًا، وقد استهدفته إسرائيل منذ ذلك التاريخ بأربعة عدوانات خلّفت أكثر من 4100 شهيد ونحو 20 ألف جريح (بلغ عدد الشهداء منذ العام 2006 وحتى الآن أكثر من 7 آلاف شهيد)، وتدمير عشرات الآلاف من الوحدات السكنية، إضافة إلى عدد من جولات التصعيد والمواجهة العسكرية بين كل فترة وأخرى، غالبًا ما تنتهي بوقف لإطلاق النار، والعودة إلى المعادلة التي تحكم القطاع هدوء مقابل تسهيلات وتخفيف الحصار.
أولًا: لقد أثبتت حركة الجهاد الإسلامي مرة أخرى أنها قوة فاعلة وقادرة، وذلك بعد المرة الأولى؛ حيث خاضت معركة عسكرية منفردة ردًا على اغتيال بهاء أبو العطا في العام 2019، كما أثبتت أنها قادرة على تحمل مواجهة عسكرية مع قوات الاحتلال والصمود لمدة خمسين ساعة واصلت فيها إطلاق نحو 1000 صاروخ وقذيفة باتجاه مناطق واسعة في إسرائيل؛ الأمر الذي أدى إلى خسائر مادية ومعنوية كبيرة في صفوف الكيان المحتل، ومع عدم إلحاق خسائر بشرية كبيرة.
ثانيًا: على الرغم من وجاهة الأهداف والدوافع التي وقفت وراء عدم مشاركة حركة حماس، فإنّ هذا الموقف أحدث صدعًا في جدار غرفة القيادة المشتركة ووحدة موقف فصائل المقاومة التي تشكل "حماس" عمودها الفقري.
طبعًا، لتفسير موقف حركة حماس، لا بد من الإدراك أن الوقت غير مناسب، سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، لمعركة واسعة حدد الاحتلال وقتها المناسب له؛ حيث العالم مشغول بما يجري في أوكرانيا، والتوتر الأميركي الصيني بعد زيارة نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الأميركي، إلى تايوان، وتصاعد التوتر بين حزب الله وإسرائيل على خلفية استخراج الغاز، واستئناف المفاوضات حول النووي الإيراني، التي لديها فرصة للنجاح لا تقل عن خطر الفشل، وسيكون لنتائجها في هذا الاتجاه أو ذاك تأثيرٌ كبيرٌ على ما يجري في فلسطين والمنطقة والعالم.
ثالثًا: أرادت حكومة الاحتلال من هذه الحرب مواصلة حربها الهادفة إلغاء نتائج هبة فلسطين والفلسطينيين داخل فلسطين، وتحديدًا معركة سيف القدس في أيار من العام الماضي، التي أكدت وحدة وترابط القضية والأرض والشعب، وتكامل أشكال النضال الشعبية والمسلحة.
استطاعت سلطات الاحتلال خلال هذا العام تسجيل نقاط لصالحها، خصوصًا في تنظيم مسيرة الأعلام في التاسع العشرين من أيار هذا العام بأعداد غير مسبوقة، ومواصلة وتصعيد عمليات القتل والاقتحامات والاغتيالات والاعتقالات في الضفة الغربية، التي بلغت ذروتها باعتقال القائد بسام السعدي بطريقة مهينة، إضافة إلى تنفيذ خطة الفصل الزماني والمكاني في الأقصى، ومجمل مخططاتها التوسعية والعدوانية والعنصرية، خصوصًا لجهة توسيع المصادرة للأرض، والتطهير العرقي للسكان وزيادة عدد المستوطنين بأعداد غير مسبوقة؛ إذ يقارب عدد المستوطنين بالضفة مليون مستوطن.
طبعًا، هذا لا يلغي ولا يقلل من أهمية ما شهدناه من تصعيد للمقاومة، وظهور وتعميم ظاهرة كتيبة جنين، ومواصلة وتصعيد المقاومة الشعبية في العديد من المواقع.
رابعًا: ما حدث في المعركة الأخيرة يظهر خطورة عدم وجود رؤية شاملة وإستراتيجية وقيادة موحدة، ولا يقلل من ذلك بعض أشكال الوحدة الميدانية السياسية والشعبية والعسكرية، فلا شيء يغني عن أساسية تحديد أين نقف الآن: على حافة زوال إسرائيل ومرحلة الهجوم الإستراتيجي، أم مرحلة الدفاع الإستراتيجي السلبي أو الإيجابي، فالتصريحات العنترية والمبالغة بقوة المقاومة والتقليل من قوة العدو تضر، ولا تفسر ما حدث في الأيام الماضية، بل في العام الحالي كله من تقدم إسرائيلي من دون التقليل من أهمية الصمود والمقاومة.
ومع الإجابة عن سؤال" أين نقف؟، لا بد من الإجابة عن سؤال: ماذا نريد أن نحقق على المدى المباشر والمتوسط والبعيد؟ وكيف سنحققه؟ وبأي تحالفات ومراحل، فلا يجب الاكتفاء بتكرار تمسكنا بالتحرير والمقاومة على أهميته؟
وإذا كانت الوحدة الشاملة متعذرة حاليًا، فإن وحدة معظم القوى والحراكات والفعاليات على برنامج مشترك أكثر من ملحة على طريق تحقيق، بل فرض الوحدة الشاملة. في إطار الوحدة لا يستطيع فصيل وحده أن يقرر التصعيد من أجل إطلاق سراح أسرى من تنظيمه، بينما لا يتم تحرك مماثل إزاء كل ما تقوم به سلطات الاحتلال طوال هذا العام، وخصوصًا في القدس.
نحن محكومون بمعادلة سلام اقتصادي وتعاون أمني في الضفة، وبمعادلة هدنة وراء هدنة وبينهما مواجهات عسكرية في قطاع غزة، ولا تغير هذه وتلك مع الفرق فيما بينها من معادلات الصراع وقواعده الحاكمة، فمراكمة الانتصارات الصغيرة والكبيرة هي الكفيل بتحقيق الانتصارات الكبيرة، وهذا متعذر من دون قيادة ورؤية وإستراتيجية واحدة، وهنا موقف السلطة المدين للعدوان لا يكفي، بل مضلل إذا لم يرافقه تغيير المسار البائس، أو على الأقل خطوات جوهرية في هذا الاتجاه، ويجب الكف عن المراهنة أكثر مما ينبغي على الآخرين هنا وهناك، وعلى المتغيرات والحروب المحتملة في المنطقة والعالم، فإذا لم نكن جاهزين لن ينفعنا الآخرون، فهم لن يحاربوا بدلًا منا، وإذا توصلوا إلى اتفاقات فسنبقى وحدنا، وإذا توفرت فرصة لن نتمكن من التقاطها، وإذا برز خطر فلن نتمكن من مواجهته.
خامسًا: لم يحقق الاحتلال في هذه المعركة العديد من أهدافه، فلم يفرض شروطه على الجهاد على الرغم من التضحيات الكبيرة في صفوفه، فالعدو يستهدف القضاء على الجهاد أو إضعافه بشكل كبير، على اعتبار كما تراه سلطات الاحتلال أنه تنظيم مقاوم ولا تحكمه قيود السلطة وامتداد لإيران، وهذا لم يتحقق، وأراد الفصل بين "حماس" و"الجهاد"، وهذا تحقق جزئيًا، وأراد فرض وقف إطلاق نار طويل الأمد ولم يتحقق، وأرادت الحكومة زيادة فرصها بالانتخابات القادمة، وهذا سيظهر في نتائج الاستطلاعات أولًا، وفي الانتخابات القادمة في شهر تشرين الثاني القادم.
أيضًا، لم يتمكن الجهاد من فرض شروطه، بدليل أن الالتزام بالإفراج عن العواودة والسعدي تم بتعهد مصري وليس إسرائيليًا. غير أن المعركة حققت الربط بين نضال غزة الضفة من بوابة الأسرى هذه المرة.
أخيرًا، لا يجب تحميل غزة وأهلها ومقاومتها أكثر مما تحتمل، فغزة ليست كل أو معظم الفلسطينيين وتقوم بقسطها، ولا بد من البحث في كيفية تفعيل كل الفلسطينيين، لا سيما في ظل وجود موقف فلسطيني موحد من العدوان، ولكن من دون أي خطوات وحدوية، وهذا مرة أخرى مسألة ضرورية وتزداد إلحاحًا، وحتى تتحقق بحاجة إلى رؤية وإستراتيجية وإرادة وقيادة موحدة، ومن دونها لا يمكن ترجمة الصمود والمقاومة إلى انتصارات.