بين الصراع على الروايات، ثمة مجتهدون كُثر، بل ربما انخرطت الأغلبية في إسرائيل، والكلّ في فلسطين، كلٌّ لتقديم روايته بالوسائل المتاحة. هي رواية صراع بين الباطل المسنود بآلات دمار شامل، وخطط استعمارية، وسياسات عنصرية، تهويدية، تعتمد القتل والتجريف، وبين الحق، الذي يملك الإرادة، وتغمره القناعة الراسخة بحقه، وبأن هذا الحق سينتصر يوماً.
في روايات الأمس القريب، نهضت العنصرية، بأبشع ما لديها، وبأكثر الوسائل فتكاً، تنتقل بين جنين وغزة، والقدس ونابلس، وفي كل محاور الاشتباك وعلت أصوات الانتصار على الدم الفلسطيني، وعلى جثث الأطفال والنساء، وفوق البيوت المدمّرة.
لابيد، غانتس، وزير الداخلية الإسرائيلي، كبار الضباط، المسؤولون الأمنيون، تحفّهم جوقة كبيرة من الصحافيين والكتّاب والإعلاميين، وجماعات المتطرفين يرقصون في باحات المسجد الأقصى.
خمسة وأربعون شهيداً في غزة، تزداد أعدادهم، بسبب خطورة الإصابات، وأكثر من ثلاثمائة جريح في مستشفيات تفتقر إلى الإمكانيات والوسائل الطبية.
اربعة شهداء، ثلاثة في نابلس، ينتمون إلى "كتائب شهداء الأقصى"، وأكثر من مئة إصابة، على مختلف محاور الاشتباك.
ثمانية عشر محور اشتباكٍ في الضفة الغربية تزامنت، وأعقبت، استشهاد القائد الفتحاوي إبراهيم النابلسي، ورفاقه الميامين.
يخرج الشباب إلى ساحات المواجهة المباشرة مع المستوطنين، وحواجز الجيش، متجاوزين القرارات، والتوجيهات الفصائلية التي تكتفي بتوصيف ما يجري، والتحذير من القادم، وتعتمد خطاب مطالبة المجتمع الدولي بالتحرك للجم العدوان، ولكن لا أحد من الفلسطينيين يستنجد أو يطالب بتدخل وسطاء.
في كل مرة يقع فيها اشتباك بين الفلسطينيين والجيش الإسرائيلي، يمتنع الفلسطينيون عن مطالبة الوسطاء بالتدخل، وفي كل مرة، إسرائيل هي من يبادر ويتوسّل تدخل الوسطاء.
وكالعادة، لا تحرك جثامين الأطفال المصفوفة على الأرض، ضمائر من تجمّدت ضمائرهم، ولا يرون في هذا المشهد سوى أنهم ضحايا من يسمّونهم الإرهابيين، وأنهم ضحايا لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها.
لم تلجأ إسرائيل التي تغطي جرائمها ضد الأطفال والنساء، وتقوم بتدمير البيوت على رؤوس أصحابها من المدنيين، لم تلجأ ولا مرّة، إلى مؤسسات العدالة الدولية، أو إلى أيّ من مؤسسات الأمم المتحدة لكي تشكو الفلسطينيين.
هي لا تؤمن بالعدالة وتخشاها وتدرك في حقيقة الأمر، أنها دولة مارقة، ذات أبعاد استعمارية تسلب حقوق وحياة شعب آخر، وتمارس ضده كل أشكال التمييز العنصري، والإرهاب، والتطهير العرقي، ولا ترى له على المدى الأبعد حق الوجود على أرضه.
يتبجّح قادة الاحتلال، بانتصارات وهمية، ويواصلون إطلاق التهديدات، بموازاة عدوان مستمر، بترقب احتمال إطلاق صواريخ من غزة على خلفية ما جرى في نابلس، وامتناع إسرائيل عن تلبية شروط "الجهاد الإسلامي"، وترقب في الضفة، لاتساع دائرة المقاومة، والمقاومة يدها على الزناد.
يقدم المحتل المجرم ممثليه إلى العالم، وهم يرفعون أياديهم الملطخة بالدم، عسى أن يشكل ورقة انتخابية، تمكن كل منهم بالفوز بكعكة الحكومة ورئاستها.
وتتقدم والدة الشهيد إبراهيم النابلسي، لتقدم مرافعتها وخطابها أمام العالم، ممثلة عن كل الشعب الفلسطيني، ومعبّرة عن إرادته وتطلعاته.
تنجح الابتسامة التي ارتسمت على وجنة أم الشهيد، وترتفع زغاريدها لتطغى على أصوات الرصاص والقذائف الإسرائيلية القاتلة، فتعلن احتلالها للمشهد الإعلامي والسياسي والكفاحي والنفسي، لتقدم الشعب الفلسطيني بخطاب أروع، وأكثر إقناعاً، وتأثيراً من خطابات السياسيين، قادة وفصائل.
أين شاهد العالم، أماً كالأم الفلسطينية، تبتسم، وتحمل جثمان فلذة كبدها الشاب الجميل، وتبث رسالة، تعبوية قوية لدى مئات بل ملايين الشباب الفلسطيني في كل أنحاء الأرض؟
لقد كان خطاب الصبية، والأم الفلسطينية، أكثر بلاغة، وأشد وأوسع تأثيراً، أولاً على الشعب الفلسطيني وتالياً على المجتمع الدولي.
وبالقدر الذي كان خطاب "أم إبراهيم" تحفيزياً وتعبوياً للشباب الفلسطيني، فإنه لا بدّ أن يكون خطاباً مخيفاً بالنسبة للإسرائيليين.
بإمكان المتسلّقين على سلّم الانتخابات أن يواصلوا، وسيواصلون جرائمهم ضد الشعب الفلسطيني، فكلما سقط شهيد أو جريح زادت أوراقهم الانتخابية، لكنهم لا يحسبون لما ينتظرونه، ولا يحسبون الحساب، لوعد أم الشهيد، الذي صفعهم جميعاً.
رسالة ورواية، وخطاب "أم إبراهيم" كان ولا يزال أقوى وأكثر أهمية وتأثيراً، من اجتماع مجلس الأمن الذي عقد جلسة مغلقة، يوم الاثنين، ويعقد جلسة شهرية حول الأوضاع في فلسطين، لكنه يصطدم في كل مرة بـ"الفيتو" الأميركي، وربما البريطاني، أيضاً، وإن لم يكن هؤلاء فثمة آخرون ضامنون لأمن إسرائيل.
لم تربح إسرائيل ولن تربح، لا هذه الجولة، ولا أي جولة أخرى، ولو أن الفلسطينيين، أمام عدو ينتمي إلى الحدّ الأدنى من الإنسانية والعدالة لخجل هؤلاء، من أنهم يعلنون انتصاراً زائفاً، يحققه ما يعتبرونه الجيش الذي لا يقهر، على منظمة فلسطينية، سواء أكانت "الجهاد الإسلامي" أو "كتائب شهداء الأقصى"، أو أي فصيل آخر، لكنها طبيعة من أدمنوا قتل البشر والعدل.