سأبدأ هذا المقال بأن أنقل لكم ما دار بيني وبين شخصية فلسطينية بارزة ومؤثّرة من حوار لا أعرف كيف أُسمّيه أو أَصِفه أو أُصنّفه.
سألني: كيف ترى الحالة الوطنية الفلسطينية في ضوء ما وصلنا إليه من مأزقٍ لم يعد خافياً على أحد؟
فأجبت: وما فائدة أيّ آراء أو أفكار إذا لم يكن لدينا مؤسسات تبحث عن هذه الآراء والأفكار، وتبحث فيها عن الحلول الممكنة، أو التي يمكن أن تصلح لإخراج هذه الحالة من المأزق الذي أشرت إليه؟!
قال: نعم، هذا صحيح، ولكن دعني أسمع منك أوّلاً، إذ ربما يساهم ذلك في بلورة اقتراحات محدّدة لشكل أو أشكال معينة من المؤسسة التي تبدأ بحوارات جديدة حول الحالة وحول المأزق.
وافقت من دون أي حماسة، وبدأت بالإجابة من خلال طرح الأسئلة الآتية:
 هل يوجد في المدى القريب أو المنظور ــ وهناك من يضيف إلى ذلك المدى البعيد، أيضاً ــ أي بادرة أمل، مهما كانت، ومن أي نوعٍ كانت بأن يكون لدينا "شريك" إسرائيلي في عملية سلامٍ جادّة، أو تسوية، أو مقاربة حلّ مقبول على الشعب الفلسطيني بالحدود الدنيا من مفهوم الشرعية الدولية المتعارف عليها، أو القانون الدولي الذي يضمن حقنا بتقرير المصير؟
 فأجاب: لا، وبالمطلق، لا يوجد مثل هذا الشريك، وليس لوجوده أي أفق في الواقع الإسرائيلي.
 عدت فسألت: هل يوجد أيّ مجال من أيّ نوعٍ كان أن تتخلى الولايات المتحدة في كل المديات المنظورة الممكنة عن دعمها المطلق لإسرائيل؟.. أوَليست الحالة الإسرائيلية هي حالة أميركية بالمعنى "العضوي" للكلمة؟
فأجاب: لا يوجد مثل هذا المجال، ثم أردف قائلاً؛ حتى لو أن الظروف في مرحلة قادمة أصبحت تقتضي أن يتراجع الإسرائيليون هنا وهناك، فإن الولايات المتحدة هي من سترفض مثل هذا التراجع!
 ثم سألت: هل لديك أي آمال بأن ينهض الواقع العربي ويتمرّد على حالة التخلي المعلنة من قبل النظام العربي الرسمي عن القضية الفلسطينية؟.. وهل حالات "التمرّد" الوطني والاجتماعي قادرة على إسناد الحالة الوطنية في ظل أزمات الفقر والبطالة والشرذمة الوطنية والدينية والطائفية وغيرها؟
 فأجاب: لا يوجد في الأفق مثل هذه الآمال!
 ثم سألت: هل لديك شكّ بأن "مشروع حماس" هو مشروع انقسامي وانفصالي، ربما يكون قد وصل إلى مرحلة اللاعودة؟
 فـأجاب: الآن لم يعد لديّ مثل هذا الشكّ. نعم وصلت "حماس" إلى هذا الواقع وربما أبعد منه، أيضاً.
 ثم سألت: هل يُرضيك حال "فتح"، وما وصلت إليه من تصدّعات وصراعات قد تهدد ما تبقّى من شذرات في المشروع الوطني المتعارف عليه؟
 فأجاب: أُوافق أنه من دون نهوض "فتح" واستنهاضها فلن يكون قد بقي من المشروع الوطني إلّا التغنّي بتراثها وبطولاتها التي تكون قد تحوّلت إلى "غابرة".. وأردف قائلاً؛ لا توجد قوى سياسية جادّة الآن قادرة على تحمُّل مسؤولية العمل الوطني من موقع القدرة، والاستقلال، ومن موقع الطاقات، ومن موقع التنظيم الجماهيري!.. فاليسار مستقطب وليس قطباً، ودخل في لعبة المحاور، وذهب بعيداً في هذا الاتجاه.
وبعد نقاشٍ أوسع وأكثر ملموسية حول إفراغ المنظمات الشعبية من محتواها، وتحويلها إلى واجهات سياسية، هي في الواقع "دكاكين سياسية"، وأصبحت أقرب إلى منظمات غير حكومية مهلهلة تصبح الحالة الوطنية، ويصبح المأزق مستفحلاً بعد أن تحوّلت السلطة إلى بديلٍ عن المنظمة، وبعد أن فقدت المنظمة دورها القيادي المباشر، وبعد أن تحوّلت إلى إطارٍ يتم الرجوع إليه واستحضاره للترتيبات الداخلية تحديداً ودون غيرها.
مع نهاية الحوار سألني:
 ما العمل إذاً؟
 أَجبت: قبل سؤال ما العمل؟ علينا أن نحدّد من أين نبدأ؟، وتابعت: لا أقصد من سؤال: من أين نبدأ الحلقة المؤسسية، بمعنى نبدأ من السلطة أو "فتح" أو المنظمة، وإنما أقصد الحلقة المركزية التي تُمسك بكل السلسلة الوطنية، وهي التي تحدّد كيف ومتى ولماذا؟!
فإذا كان ما ذهبنا إليه حول الواقع الإسرائيلي صحيحاً، وهو صحيح بكل تأكيد، وإذا كان موقف الولايات المتحدة صحيحاً كما اتفقنا على تشخيصه، وهو صحيح، وإذا كان الوضع العربي الرسمي قد وصل إلى ما وصل إليه، وهو فعلاً قد وصل، وإذا كان الانقسام قد تكرّس وهو يتحوّل إلى مشروع واهم حول الانفصال عن الجسد الوطني، وهو قد تكرّس في الواقع، وإذا كانت هذه هي حال "فتح"، والسلطة قد ابتلعت المنظمة، والمنظمة تهمّشت وضعفت، يُصبح "التعايش" مع كل هذه الوقائع مرعباً، والتي تتحول إلى حقائق، قد لا يمكن تجاوزها بسهولة، وإذا كان هذا هو واقع المنظمات الشعبية، ومنظمات المجتمع المدني، والتي تتنازعها مراكز القوى في السلطة، وفي حركة "فتح"، وتفلت من أيدي المجتمع وتتحول أحياناً إلى رديف للحمائلية والعشائرية وللقوى المتخلّفة، الرجعية الدينية والاجتماعية.. إذا كان كل ذلك صحيحاً، وهو صحيح، فإن خياراتنا لم تعد صعبة، ولم تعد غامضة، ويجب ألا تكون ملتبسة على الإطلاق.. لماذا؟
ببساطة لأن "التعايش" مع كل هذه الوقائع والحقائق هو بمثابة تسليم مفاتيح مشروعنا الوطني لإسرائيل كدولة مقررة في هذا الواقع، وللولايات المتحدة كدولة ساعية وحامية لدولة الاحتلال، وللنظام العربي الذي يطمح لشراء سكوتنا مقابل شعارات وديباجات إلى أن ينتهي مشروعنا إلى حالة استجداء سياسي، وإلى فتات مالي للبقاء، وإلى ملحَق إعلامي من السياسة العربية.
و"التعايش" يعني تغوّل السلطة، واضمحلال المنظمة، وتحلّل "فتح" أو تفتتها. و"التعايش" يعني التحول موضوعياً ــ إن لم يكن برغبة الطبقة السياسية الفلسطينية ــ نحو "الحل الاقتصادي"، ونحو تقليص الصراع في المرحلة الأولى، ونحو إنهاء الصراع في مرحلة تالية أو لاحقة.
ولأن بعض المسائل لا تحتمل الحلول الوسط فلا يوجد في الواقع "نصف" تعايش، لأن المرأة يستحيل أن تكون نصف حامل، كما أن ضوء الكهرباء إما أن يكون "ضاوي أو طافي".
وإذا اعتقد بعضنا أن بالإمكان البحث عن حلول وسط بسبب ثقل الأعباء التي ترتبت على قيام السلطة بالشكل الذي قامت عليه، وعلى النحو الذي تطورت باتجاهه، فإن السير وراء هذا الوهم هو الوصفة المضمونة لنهاية مشروعنا، وإذا اعتقد بعضنا أن "فتح" ستتوحّد من جديد من دون "حلّ" تتحوّل بموجبه السلطة إلى هيئة وطنية للإدارة الاجتماعية، وتصبح مجرد هيئة من هيئات المنظمة، وجزءًا خاصاً من النظام السياسي القائم على أوسع مدى من الديمقراطية فإنه واهم وساذج، أيضاً.
وإذا اعتقد بعضنا أن "مشروع حماس" يمكن أن يُهزم من دون بناء نموذج ديمقراطي فلسطيني فهو أكثر من واهم وسذاجته بلا حدود.
لكن ومع ذلك كله فإن "قلب" الطاولة في وجه الاحتلال والولايات المتحدة هو المدخل لتحوّل العمل السياسي والدبلوماسي إلى مقاومة، وقلب الطاولة في وجه النظام العربي، على الأقل من زاوية عدم السكوت الرسمي عن سياسات هذا النظام، هو مقاومة.
وتحويل حياة الفلسطيني في التعليم، والصحة وكل مناحي الحياة إلى حالة مقاومة هو الكفيل بزعزعة الموقف الإسرائيلي، واهتزاز المجتمع الإسرائيلي، وإلى زيادة الضغوط الداخلية على الإدارة الأميركية، ومحاصرة دعمها المطلق لإسرائيل.
باختصار، نحن بحاجة إلى إعادة تعريف المشروع التحرّري بدءاً وانطلاقاً من تحديد المقاومة كحالة وطنية، في كل المجالات، وعلى كل المستويات، ولعلّ مقاومة شعبية حقيقية على غرار الانتفاضة الوطنية الكبرى 1987 هي النموذج الوحيد القادر على وضع كامل المشروع الصهيوني في مأزق لا مخرج منه سوى التسليم بحقوق شعبنا، لأن كلفة الهروب والتهرّب باهظة الثمن. هذه هي حرب التحرير الوطنية الوحيدة القادرة على الانتصار.
لكن المأزق الأكبر أن البنى السياسية والحزبية ليست مؤهّلة لمثل هذا التطور من المقاومة الوطنية، وهنا لنا عودة ضرورية.