تتغنى الحكومة الإسرائيلية هذه الأيام بما تعتبره إنجازاً أمنياً، حققته خلال 55 ساعة من العدوان على قطاع غزة، وفي التفاصيل تشير إلى نجاحها في مباغتة «الجهاد الإسلامي»، ونجاحها في اغتيال اثنين من أهم قياداتها العسكرية، قائد «سرايا القدس» في شمال القطاع، وقائدها في جنوبه، إضافة إلى عدد من الكوادر العسكرية المرافقة لهما، كذلك إضافة إلى تدمير مواقع ومنصات صواريخ خاصة بحركة الجهاد، وكل ذلك في وقت قصير، تم خلاله تجنب ردود الفعل أو الصخب الدولي، والأهم - بالنسبة لإسرائيل بالطبع - هو عدم سقوط ضحايا إسرائيليين جراء إطلاق ألف صاروخ فلسطيني، فيما كانت الخسائر المالية محدودة، نظراً لتعطل الحياة في مدن الغلاف لأقل من ثلاثة أيام.
طبعاً يمكن تفسير ما يعدّه كل من يائير لابيد وبيني غانتس إنجازاً أمنياً، ضمن دعايتهما الانتخابية، حيث أشارت استطلاعات الرأي فعلاً إلى أن حزب لابيد تقدم قليلاً، فيما تتعزز صورة الرجل كرئيس حكومة منافس حقيقي لبنيامين نتنياهو، فيما بالمقابل يواصل غانتس تعزيز مكانة حزبه، فها هو - بعد أن ضم إليه جدعون ساعر وحزبه «أمل جديد» - يعزز صفوفه برئيس هيئة الأركان السابق غادي آيزنكوت، وذلك لمزيد من التذكير على أن غانتس وحزبه ما زالا في الموقع الأمني/العسكري كحزب جنرالات، من بين حشود رجالات السياسة من دون الخلفيات الأمنية، على عكس ما كان عليه رؤساء الحكومات الإسرائيلية منذ تأسست الدولة وحتى مطلع الألفية الثالثة.
لكن من المهم جداً الإشارة إلى أن الحكومة الإسرائيلية، ومعها كثير من المتابعين الإسرائيليين، يعتبرون أن النجاح الأهم في العملية العسكرية ضد «الجهاد»، هو أنها نجحت في شق صفوف المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وبالتحديد بين «سرايا القدس» و»القسام»، وكانت إسرائيل منذ اللحظة الأولى واضحة في إعلانها أنها تستهدف «الجهاد الإسلامي» وليس «حماس»، أي أنها طالبت «حماس» و»القسام» بعدم التدخل في الحرب بين إسرائيل و»سرايا القدس»، وفعلاً هذا ما حدث، فلم تشارك «القسام» بالرد على العدوان الإسرائيلي ولو بإطلاق صاروخ واحد، وترك إلى حد كبير الشأن التفاوضي للتوصل لاتفاق وقف إطلاق النار لـ»الجهاد الإسلامي».
صحيح أن ذلك لم يحدث للمرة الأولى، فقد سبق لـ»القسام» وأن امتنعت عن التدخل حين رد «الجهاد الإسلامي» على اغتيال قائده العسكري بهاء أبو العطا من قبل، لكن هذه المرة الأمر مختلف، فقد أعلنت إسرائيل مسبقاً، كما أشرنا أنها تستهدف الانفراد بـ»الجهاد الإسلامي»، واستجابت لها «حماس»، وكان الأمر واضحاً وصريحاً، وقد تعاطفت «حماس»، وأقرت لـ»الجهاد» بحق الرد بعد أن بادرت إسرائيل هذه المرة بالحرب، دون أن يكون عدوانها رداً على إطلاق الصواريخ من غزة.
«حماس» تصرفت إذاً كما لو كانت «دولة شقيقة»، أو كما لو أن العدوان على غزة يخص بلداً مجاوراً، وهي تفعل هذا في كثير من الأحيان تجاه السلطة الفلسطينية، كونها سلطة مسؤولة عن الضفة الغربية، لكن «حماس» مسؤولة عن قطاع غزة، وجيشها الذي هو «القسام»، مسؤول عن حماية قطاع غزة والدفاع عنه، ضد أي عدوان خارجي، وليست مهتمة أن يحافظ على حكم «حماس» ضد «عدو أو خصم داخلي»، لذا وكما يقول المثل: «اللي على راسه بطحة بيحسس عليها»، انطلقت ألسنة بعض إعلاميي «حماس» ومحازبيها بتحميل «الجهاد» مسؤولية المواجهة الأخيرة، كونها جرّت غزة لحرب ليست «وطنية»، لتحقيق مطالب حزبية، بالإشارة إلى أن «الجهاد» طالبت بإطلاق أسيرَيها خليل العواودة وبسام السعدي.
وهناك من وصل به الأمر للمطالبة باستقالة أمين عام «الجهاد»، على خلفية ما اعتبره إخفاقاً، في مواجهة الدهاء الإسرائيلي متمثلاً بتوجيه الضربة باغتيال تيسير الجعبري، خلال فترة التفاوض، كذلك في تكرار عملية الاغتيال بالوصول إلى خالد منصور، في اليوم التالي، ولم تتم الإشارة إلى أن «الجهاد» اضطرت لقبول وقف إطلاق النار للحفاظ على علاقتها مع «حماس»، فيما أطلق عليه تجاوزاً «وحدة الساحات»، في إشارة إلى أن إسرائيل كانت تهدف إلى فصل غزة عن الضفة على مستوى فعل المقاومة، وعدم الاكتفاء بالفصل بينهما على مستوى السلطة.
والغريب أن «حماس» تبقى طرفاً في الأمرين، فهي طرف في الفصل بين غزة والضفة على مستوى السلطة، وها هي تستجيب إلى فصل جناحَي الوطن أحدهما عن الآخر، على مستوى فعل المقاومة، ومن يقبل أن يتفرد العدو بفصيل مقاوم دون الفصائل الأخرى، يقبل بأن يتفرد العدو باجتياح الأقصى، والتغوّل على مدن وقرى ومخيمات الضفة، دون غزة، وهكذا، حين يحين موعد الحرب التالية على غزة، تصمت المقاومة في مدن وقرى ومخيمات الضفة.
أما شعار «وحدة الساحات» فقد رفعته «الجهاد» أولاً رداً على إطلاق إسرائيل اسم «الفجر الصادق» على عمليتها، وهي أي «الجهاد» رغم أنها كانت قد هددت بالرد، ولم تقم بإطلاق الصواريخ من غزة، حيث ظلت تحرص دائماً على التنسيق مع «حماس» في كل إطلاق للصواريخ من غزة، وربما كانت تقصد وحدة فصائل المقاومة في كل الساحات؛ لأن وحدة الساحات تعني في السياق وحدة المقاومين في كل الساحات أصلاً، ولم تتفوه «الجهاد» حتى اللحظة بأي كلمة عتب تجاه «حماس» و»القسام»، حرصاً منها على العلاقة مع الحركة الشقيقة والشريكة.
فيما يبدو أن إسرائيل تواصل المراهنة على تحول «حماس» إلى سلطة في قطاع غزة، بتقديم الخدمات والمغريات، وذلك بفتح المعابر، كذلك يبدو أن مرور خمسة عشر عاماً على وجود «حماس» في الحكم، قد بث عوامل الترهل السلطوي في أوصال مقاومتها، التي تحولت مع مرور الوقت إلى جيش تقوده رتب عسكرية لديها من الامتيازات ما يحول دون استعدادها للتضحية التي كانت عليها من قبل.
أما «الجهاد» فقد تحملت عبء الحرب الأخيرة وحدها، لكن هذا بالطبع أعلى من شأنها، والشهداء لا يذهبون بفصائلهم سوى إلى المجد والعلا، وهذا ما حصل من قبل لحركة «فتح» ولحركة «حماس» نفسها، فشهداء «حماس» من القادة، قبل نحو عشرين عاماً، رفعوا من شأنها وصولاً إلى فوزها بانتخابات العام 2006، وهكذا تظهر «الجهاد» اليوم كفصيل ند لإسرائيل في ساحات القتال.
لذا فإن «الجهاد» لا تظهر ندماً ولا خوفاً من مواجهة إسرائيل، خاصة وهي تولي الأرض المحتلة مباشرة من قبل إسرائيل، أي الضفة الغربية، كل اهتمامها المقاوم، فيما على «حماس» أن تتحمل مسؤولية كسر الحصار عن غزة، دون تقديم الثمن السياسي الباهظ، على حساب وحدة الجغرافيا الفلسطينية، كذلك عليها تحمل مسؤولية إعالة مليونَي مواطن بكل حاجاتهم للعمل والعيش واحتياجاتهم المعيشية المختلفة، لا أن تظل «قدم في الجنة وقدم في النار»، لا أن تظل لا هي سلطة ولا هي مقاومة، تطالب سلطة «فتح» بتحمّل مسؤولية الناس في غزة، فيما تلقي بأعباء المقاومة على «الجهاد الإسلامي»!