إذا كان المأزق الوطني قد أصبح ماثلاً وواضحاً ومشخّصاً بالأسباب التي أتينا عليها في المقال السابق، وخصوصاً الواقع الإسرائيلي، والدعم الأميركي المطلق للعدوانية والتوسعية الإسرائيلية، وتستّر الإدارات الأميركية، وجزء كبير من الغرب، وإذا كان واقع النظام السياسي العربي قد وصل إلى مرحلة التخلّي الفعلي عن دعم الحقوق الوطنية كشرطٍ لعلاقات هذا النظام بإسرائيل، وإذا كان الانقسام قد تحوّل بالفعل إلى «حالة مكرّسة»، وهو في الطريق إلى أن يتحول إلى أمر «واقع» جديد، بعد أن تمّ «بناء» سلطة للأمر الواقع، وإذا كان وجود سلطة في الضفة وأخرى في غزة قد تحوّل إلى صراعٍ على «الفوز» بالجدارة الأميركية والإسرائيلية، فإن ما بات يهدد ما كنّا جميعاً نعتبره (المشروع الوطني) هو العامل الذاتي الفلسطيني أكثر من العامل الموضوعي، والذي يتمثل في الخلل الكبير والخطير في ميزان القوى لصالح المشروع الصهيوني.
دعونا نحاول توضيح هذه المسألة بالذات، لأن من شأن النجاح فيها (أي المحاولة) أن يعيدنا إلى سؤال «المقاومة»، وإلى سؤال «المأزق» وإلى مسألة إعادة بناء الحالة الوطنية.
بحدود ما أعرف فإن التاريخ المعاصر لم يشهد حركة تحرر وطني لشعب صغير كشعبنا يواجه هذا الحجم الهائل من الأعداء، وهذا الحشد المهول من القوة والبطش، وهذه الشبكة الجهنمية من المصالح والتحالفات والأحلاف، ولا هذه الاصطفافات الإقليمية والدولية بالقدر الذي واجهه الشعب الفلسطيني.
فأين وجد مثل هذا المعسكر في مواجهة شعب صغير كشعبنا؟
نتحدث هنا عن منظومة غربية كاملة وقفت بكل قوتها وراء سرقة الوطن الفلسطيني، وأقامت أكبر الأدوات السياسية في القرن العشرين لهذا الغرض، والذي تمثل في بلورة الحركة الصهيونية، وعملت بكل الوسائل لاقتلاع شعبنا من أرضه وترحيله والقضاء على كل مقوّمات الحياة لديه، وكرّست كامل منظومة الانتداب لتحويل «الوعد» إلى دولة على أنقاض شعبنا ووجوده وحقوقه.
وأين وجدت حركة تحرر وطني تناوب الغرب على تدميرها والقضاء عليها منذ «ثورة البراق» وحتى يومنا هذا مطاردةً، وترحيلاً، وإلحاقاً، ومصادرةً، ونفياً، وحصاراً وتجويعاً. ليس هذا فقط، فقد تعهدت بريطانيا «العظمى» بالمقاولة الكاملة لإقامة دولة المشروع الصهيوني، وزرعت في كل المحيط الفلسطيني حالة «عربية» لإسناد هذا المشروع، ثم تعهدت ألمانيا بتوفير الأموال، وتعهدت فرنسا بتوفير السلاح بما في ذلك الرؤوس والقنابل النووية، وتعهدت الحركة الصهيونية إضافة إلى القتل والإرهاب بمنظومات متكاملة للنهب والمصادرة والتزوير وسرقة التاريخ وتزييف كامل الجغرافيا الفلسطينية، إلى أن تم تسليم كامل المشروع الصهيوني للولايات المتحدة عندما أصبحت الزعيم المتوّج للغرب وللعالم ليبدأ الطور الجديد من عمر المشروع الصهيوني وتحوّله إلى حالة عضوية من الحالة الأميركية في تحالف لم يعرف كامل التاريخ المعاصر أي شبهٍ له على الإطلاق.
حاولت أن أُسهِبَ هنا لكي أُبيّن أن هذا الحجم الهائل والمهول لجبهة أعداء الشعب الفلسطيني، جبهة مدجّجة بالقوة والسطوة والمصالح العابرة لكل الحدود، وبالسلاح والقاعدة العلمية المتطوّرة، وبأجهزة المخابرات والتجسّس، لم تتمكن من هزيمة شعبنا على الإطلاق، بالرغم من أنها تمكنت من احتلال أرضه وتشريد جزء من شعبه، وحصاره وسجنه وملاحقته في المنافي والشتات، وهي ما زالت تواصل وتمعن في ذلك بكل الوسائل والأشكال.
لقد منعناهم حتى الآن من هزيمتنا، وهذا هو الإنجاز والإعجاز، وهو بمقاييس معادلة التوازن للقوى أكبر من أي انتصار، وهو بالنسبة لهذه الجبهة من الأعداء هزيمة أكبر من أي هزيمة، طالما أننا لم نصل بعد إلى حسم الصراع، ولم يقل التاريخ (تاريخ هذا الصراع نفسه) كلمته الأخيرة.
فما الذي نستطيع أن نستنتجه من هذا كله؟
استطاع الشعب الفلسطيني على مدى أكثر من قرن كامل من الصراع أن يصمد في وجه هذه الجبهة الكاملة المتكاملة بفعل عاملين اثنين:
الأول، وجود عامل ذاتي فاعل وموحّد قادر على توفير أسس ومقوّمات الدفاع عن الحقوق الوطنية.
والثاني، هو اعتماد المقاومة الوطنية الشاملة في هذا الصراع.
والآن، لو استعرضنا المسار التاريخي للصراع في فلسطين وعليها من زاوية هذين العاملين بالذات لتبيّن لنا بكل وضوح أن القضية بما هي عليه من أبعاد وحقوق وأهداف كانت تخبو وتُزهر، تتوارى إلى الخلف أحياناً، وتُعاود الظهور والتصدّر في أحيانٍ أخرى وفقاً وارتباطاً بفعل وتأثير نضج العامل الذاتي الفلسطيني من جهة، وقدرة هذا العامل تحديداً على الاستخدام الفعّال والكفؤ للمقاومة بمعناها الواسع والشامل.
المأزق الحالي يكمن سرّه الأول في هذه المعادلة بالذات، وهو أخطر مأزقٍ نمرّ به منذ النكبة، ليس بسبب ضخامة وتوسّع جبهة أعداء الشعب الفلسطيني وصلفهم فقط، وإنما لأن العامل الذاتي الفلسطيني فقد القدرة على التحوّل إلى الحامل الوطني للتغيير الشامل القائم والمؤسس على استراتيجية وطنية شاملة لمقاومة المشروع الصهيوني، مع أنه يحاول بهذه الدرجة أو تلك، وبهذا القدر أو ذاك، ثم لأن تبنّي مثل هذه الاستراتيجية يتعارض، وقد يصحّ القول، أيضاً، إنه بات يتناقض مع المصالح الخاصة للقائمين على السلطتين «الرسميتين» في غزة والضفة.
المأزق أكبر من عملية مصالحة، وأبعد من «إنهاء» الانقسام لأن كل المحاولات انتهت إلى الصفر أو ما دونه، والحلّ خارج إطار الشرعية الدستورية القائمة على الانتخابات سيؤدي إلى أخطار بالانزلاق إلى ما هو أبعد من مجرّد صراع سياسي على دور وحجم كل سلطة، خصوصاً أن إسرائيل تتربّص وتنتظر فرصة من هذا النوع ــ كما أشرنا في مقالات سابقة ــ ولهذا فإن كل مشروع لإعادة بناء الحالة الوطنية من على قاعدة إضعاف البُنى المتقادمة سيصطدم بالسلطتين معاً، وكل مشروع سيحاول التمرّد على هذه البُنى يمكن أن يقع في محظور الفوضى والفلتان، وأن ينزلق دون قصدٍ في «القنوات الإسرائيلية»، وكل مشروع يبدأ من هذا المدخل سيواجه صعوبات وعقبات كبيرة، قد لا يقوى حتى على استكمال المشروع نفسه حتى ولو بدأ به فعلاً، ما يعني أن إعادة بناء الحالة الوطنية تبدأ بالضغط نحو الانتخابات، بصرف النظر مؤقتاً عمن سيربح ومن سيخسر، وكم سيربح، وكم سيخسر، لأن كل القوى السياسية التقليدية القديمة أو المتقادمة فقدت القدرة على أن تشكل «عمود الخيمة» أو «حجر الزاوية».
المدخل الأساس هو الانتخابات الشاملة، وعلى الأرض البدء بتشكيل لجان وطنية في المدن والأحياء والقرى والتجمعات على أسس وطنية عامة في مجالات الدفاع عن الأرض ومواجهة الاستيطان والمستوطنين، وفي مجال إعادة زراعة الأرض، وإحياء العمل التطوعي بصورة جماعية، وكذلك الدفاع عن المُنتج الوطني، ومصالح وحقوق ومطالبات الفئات الفقيرة، وخصوصاً المعلّمين، وإعادة إحياء لجان للثقافة الوطنية والحفاظ على مستويات أعلى من خدمات الصحة والعمل والتعليم.
كل محاولة لإعادة بناء الحالة الوطنية على أسس انقلابية ستفشل حتماً، وكل محاولة للوقوف في وجه الديمقراطية ستخسر حتماً، وكل محاولة للتستّر على اختطاف أو احتكار مفهوم المقاومة عند حدود مصالحه وتكتيكاته الخاصة، ليس سوى انغماس مباشر في إعاقة المشروع الوطني ووضع العراقيل أمام الخروج من المأزق الراهن.
ليس المطلوب الآن هو الانقلاب على البُنى السياسية القائمة وإنما عدم تمكينها من الاستمرار في لعبة الانقسام والتستّر وراء «شمّاعات» الادعاء بتمثيل مشروع المقاومة، أو المراوحة في انتظار الفَرَجِ الأميركي.
التغيير قادم لا محالة، كانت الحركة الوطنية تجدد نفسها في كل المراحل التاريخية السابقة، وهي ستفعل كما فعلت في هذه المرحلة، أيضاً.
الفارق هو أن هذه العملية دقيقة وحسّاسة وتحتاج إلى حكمة كبيرة، وإلى إخلاص وطني أصيل بعيداً عن حسابات الاستقطاب السياسي.