رغم أن اعتبار إسرائيل ست مؤسسات مجتمع مدني فلسطيني، كمؤسسات داعمة «للإرهاب»، منذ بضعة شهور، إلا أن إقدامها على إغلاق مقرات تلك المؤسسات ومصادرة معداتها وأرشيف عملها، وإغلاق تلك المقرات بالأمر العسكري، قبل أيام، يعني أولا أن إسرائيل حين أصدرت قرارها قبل وقت كانت تجس نبض أو ردة فعل المجتمع الدولي، الممول بالأصل لتلك المؤسسات الفلسطينية، والراعي والداعم لها، بل والذي يعتبرها جزءا من عمله ومن نسيجه العالمي في إرساء دعائم عالم مدني ديمقراطي حقوقي، يوفر العدالة والمساواة، في الوقت الذي يمد فيه يد العون للشعوب والأفراد التي تتعرض للحروب والكوارث الطبيعية، هذا الفعل الذي دائما ما يظهره المجتمع الغربي على أنه دليل على إنسانيته، وعلى تحمله المسؤولية تجاه شعوب العالم المختلفة.  
لكن رد الفعل الدولي، يبدو أنه شجع الحكومة الإسرائيلية التي ما زالت تحكم الضفة الغربية والقدس، وفق منطق الاحتلال وحقيقته، أي وفق القوانين العسكرية، التي بشكل عام تتعارض تماما مع القانون الدولي، بل إن إسرائيل بالذات تدير الظهر وتضرب بعرض الحائط حتى بقوانين جنيف، التي تفرض على الاحتلال عدم تغيير الواقع، وحماية المدنيين، ذلك أنها لا تعتبر نفسها احتلالا إلا من زاوية عدم قدرتها على ضم السكان الفلسطينيين لدولتها خشية اضطرارها لمنحهم حقوق المواطنة المدنية والسياسية، نقول إن رد الفعل الدولي شجع إسرائيل على الإقدام على تنفيذ أمر الإغلاق، لكن يبدو أن هناك سببا آخر أو دافعا آخر، دفع قوة الاحتلال إلى القيام بإغلاق مقرات تلك المؤسسات التي تدعي إسرائيل انتماءها للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ربما لأن بعض أفرادها لديهم أفكار يسارية، وماذا في ذلك أصلا، فمن حق البشر أن يعتنقوا ما يشاؤون من أفكار ومبادئ ما دام التعبير عنها يتم بشكل ديمقراطي وبالرأي الحر، وإسرائيل نفسها لديها تنوع أيديولوجي وسياسي فيه من التطرف اليميني بالذات ما يقال فيه الكثير.  
يبدو أن من أحد أسباب قيام الجيش بإغلاق مقرات المؤسسات المدنية الست، هو أجواء الانتخابات، حيث يشير المراقبون الإسرائيليون أنفسهم إلى أن الثنائي يائير لابيد وبيني غانتس، يقومان بفعل أي شيء حاليا من أجل البقاء في الحكم، في ظل تنافس حاد مع رئيس المعارضة بنيامين نتنياهو، بل وأيضا فيما بينهما، حيث لا يخفي غانتس رغبته في تولي منصب رئيس الحكومة، وفي الوقت الذي ينحرف فيه باتجاه اليمين، خاصة بعد انضمام جدعون ساعر وحزبه له ولحزبه، فإنه يؤكد على صقريته العسكرية التي تميزه عن غيره من سياسيي المقدمة حاليا في إسرائيل، ليس لأنه قد ضم إليه مجددا رئيس الأركان السابق غادي ايزنكوت، بل لأنه يشغل منصب وزير الدفاع، وبعد أن تعرض للانتقاد خاصة من وزيرة الداخلية ايليت شاكيد، خلال الأيام الأخيرة حين أطلقت إسرائيل حملتها ضد الرئيس محمود عباس إبان زيارته لألمانيا، على خلفية لقاء غانتس الرئيس عباس من قبل، فيما رفض كل من رئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت ورئيس الحكومة الحالي يائير لابيد لقاء الرئيس الفلسطيني.  
بيني غايتس إذاً يسعى لحصد الأصوات، من خلال دخول سباق التطرف الإسرائيلي المعادي لكل ما هو فلسطيني، فالمستوطنون يعتدون يوميا على المواطنين ويقتلعون الأشجار، فيما الجيش يقتل وينكل بالشبان والنساء والشيوخ، وحتى الصحافيين والممرضين والمتضامنين وغيرهم، وهكذا لا تستثني إسرائيل أحداً من الفلسطينيين، لا أفراداً يمينيين أو يساريين، معتدلين أو متشددين، وطنيين أو متدينين، ولا مؤسسات، ولا شجرا، أي كل مظاهر الحياة الفلسطينية التي هي عدوها دون ريب أو شك، وهي باحتلالها وعنصريتها تقفل أبواب الحياة بكل معانيها، بما في ذلك الحق في العيش، أمام الشعب الفلسطيني، وعلى أساس قومي، لا علاقة له بطبيعة الشخص أو ميوله أو أفعاله، وهذا تأكيد دامغ على العنصرية الإسرائيلية، التي بالطبع وبالتأكيد لا تعتبر ولو بنسبة 1% أن الفلسطيني مثل الإسرائيلي كائن بشري له الحق في الحياة الحرة الكريمة.  
بالطبع إذا كان جو الانتخابات أحد دوافع الاحتلال للقيام بإغلاق مقرات المؤسسات الست الفلسطينية، لكن هذا فيما يخص قراءة المشهد بشكل آني أو مباشر، لكن في الخلفية، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن إسرائيل أغلقت أبواب التفاوض، وترفض حتى فتح الأفق السياسي لحل الدولتين، وهي تدعي تعرضها لتهديدات إقليمية، من إيران وغيرها، ولو كان هذا صحيحا، لكان ذلك قد دفعها إلى محاولة حل المسألة الفلسطينية، وإنهاء احتلالها لأرض الدولة الفلسطينية، لكن أيضا من الواضح أن إسرائيل العالقة منذ سنوات داخليا، والعاجزة عن تشكيل حكومة مستقرة، حتى لو كانت يمينية خالصة، وفي الوقت الذي بدأت تظهر للعلن إرهاصات النظام العالمي متعدد الأقطاب، فإنها تضع ضمن أولوياتها هضم لقمتها الاحتلالية، قبل فوات الأوان، وحقيقة الأمر أن عداءها وتحريضها ضد إيران بالذات، سببه دعم الأخيرة للمقاومة الفلسطينية، وهي تمني النفس بالتفاوض مع إيران بدلا من الولايات المتحدة، حينها كانت تذهب لصفقة مع الدولة المسلمة، ملخصها أن توقف التحريض ضدها، مقابل أن تتخلى إيران عن دعم فصائل المقاومة الفلسطينية.
المهم أن إسرائيل، ترى أن العالم على أبواب تغيير حقيقي، لن تكون فيه هي باحتلالها لأرض دولة فلسطين، وبعنصريتها فوق القانون، ولن تبقى الرعاية بلا حدود من قبل الولايات المتحدة التي بدورها لن تبقى سيدة العالم وحدها، لذا فهي تريد أو تسعى أو تمني النفس بإغلاق بوابة قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، وهي تدرك أن طي هذه الصفحة نهائيا، دونه حرب ميدانية طاحنة، ستقوم فيها إسرائيل الرسمية، أي الحكومة والجيش والشرطة، وليس المستوطنين فقط بارتكاب جرائم حرب عديدة، ستظهر للملأ العالمي بفضل تقنيات التواصل والسوشيال ميديا الحالية، وبفضل منظمات المجتمع المدني، خاصة أن فلسطين عرفت طريقها للمحكمة الجنائية الدولية، وهي تراكم جمع الملفات التي تثبت بما لا يدع مجالا لشك منحاز غربي لإسرائيل، أن دولة إسرائيل دولة عنصرية احتلالية مجرمة بحق الإنسان الفلسطيني، بأكثر من شكل ومظهر.  
ومؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني، ظهرت منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، أي قبل ظهور السلطة، ودون علاقة لا مع (م ت ف) ولا مع فصائلها، وإن كان بعض مديري وكوادر تلك المؤسسات كانوا قد انتموا لبعض التنظيمات، لكن الغريب في الأمر أن معظمهم كانوا قد خرجوا أو استقالوا من العمل التنظيمي، لكنهم عبر مؤسساتهم المدعومة من قبل المجتمع الغربي، الأوروبي خاصة، دافعوا عن الحقوق المدنية والسياسية للشعب الفلسطيني كأفراد تعرضوا للاعتقال، أو كأطفال، ونشرت تلك المؤسسات الوعي المدني في صفوف الفلسطينيين، وهي وجدت في ظل الاحتلال، لكنها قامت بدور فعال إبان الانتفاضة الأولى، وعمرها اليوم نحو خمسين عاما، أي أنها أداة كفاح مدني حقوقي، لهذا إسرائيل التي تواصل القمع لحقوق الإنسان الفلسطيني، تسعى إلى تجريده أولاً من أدوات الدفاع الخاصة به؛ تمهيداً لإخضاعه بالكامل لسطوتها الاحتلالية.