تعرض الرئيس محمود عباس لحملةٍ ظالمةٍ وعنصريةٍ بعد تصريحاته حول تشبيه المذابح المستمرة ضد الفلسطينيين بالهولوكوست، واستمرت هذه الحملة على الرغم من التوضيح الذي قام به، وميّز فيه بين الأمرين، مركزًا على اعترافه بالهولوكوست وفرادتها.

وتأتي هذه الحملة في سياق السياسات والإجراءات الرامية إلى تهميش القضية الفلسطينية على طريق محاولة تصفيتها، كما يظهر من الردود الرسمية وغير الرسمية الألمانية والبريطانية والإسرائيلية، التي وصلت إلى تقديم شكوى ضد الرئيس، والمطالبة بالتحقيق معه، ومعاقبته، وإعادة النظر في العلاقات الألمانية الفلسطينية والمساعدات المقدمة إلى الفلسطينيين.

تستوجب هذه الحملة الظالمة والعنصرية واللاسامية ردًا فلسطينيًا مختلفًا هجوميًا، وليس دفاعيًا، عبر اعتبار ما جرى فرصةً تاريخيةً لتنظيم حملة واسعة مستمرة لتقديم الرواية التاريخية الفلسطينية، وإظهار أن النكبة الفلسطينية ابتدأت منذ العام 1948، ومستمرة، وارتقى فيها أكثر من 100 ألف شهيد وأضعافهم من الجرحى، ومليون من الأسرى، وهي عبارة عن مذبحة مستمرة ابتدأت بتشريد معظم الشعب من وطنه، وهدم ومحو أكثر من 500 قرية، ومحاولة إلغاء وجود الشعب على أرض وطنه، وطمس هويته وحقوقه الوطنية وشيطنة نضاله العادل.

إن كون اليهود ضحايا النازية لا يعطيهم الحق في تحويل الفلسطينيين إلى ضحايا، ولا يعطيهم الحق لا هم ولا من تسبب في الهولوكوست ضدهم في إنكار حق الشعب في ممارسة حقه في تقرير مصيره ومقاومة الاحتلال.

جرائم القتل العنصرية ضد فرد أو أفراد أو شعب أو شعوب أخرى جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، ولا يعطي حجم جريمة الهولوكوست الحق لضحاياها بصورة أكبر من غيرهم، ولا الحق في ارتكاب جرائم ضد الشعب الفلسطيني، ولا يقلل من بشاعتها وخطورتها، خصوصًا في ظل أنها جريمة مستمرة منذ أكثر من 74 عامًا.

إغلاق المؤسسات الحقوقية والمجتمعية تستوجب ردًا في مستوى خطورتها

يندرج إقدام قوات الاحتلال على إغلاق سبع مؤسسات حقوقية وأهلية في قلب مناطق السلطة المصنفة (أ)، وبالقرب من مقر الرئاسة والحكومة، وتهديد شعوان جبارين، مدير مؤسسة الحق، بعد يومين، باعتقاله إذا مارس عمله في المؤسسة؛ ضمن سياسة التصعيد السياسية والعسكرية الاحتلالية التي شهدتها الأراضي الفلسطينية منذ سنوات عدة بعد موت ما سمي "عملية السلام"، وبعد مساعي الحكومات الإسرائيلية لفرض الحل الإسرائيلي على الفلسطينيين، التي تصاعدت منذ بداية هذا العام، وتحديدًا بعد تولي يائير لابيد رئاسة الحكومة إبان الفترة الانتقالية التي تسبق الانتخابات المقررة في الأول من تشرين الثاني القادم.

ولا نعتقد أن السبب الوحيد، ولا الأهم لهذا الإجراء الاحتلالي التصعيدي، هو الحصول على المزيد من الأصوات، بل إن ما جرى استمرارٌ للسياسات والإجراءات الاحتلالية الرامية إلى كي الوعي الفلسطيني، ودفع الفلسطينيين إلى التسليم بما يريده الاحتلال، والتصرف بوصفهم أفرادًا كل ما يهمهم لقمة عيشهم وشؤونهم الخاصة بعيدًا عن حقوقهم الوطنية الجماعية بوصفهم شعبًا، وعن توفير متطلبات إغناء وتعميق هويتهم الوطنية التي استمرت وتجذرت على الرغم مما تعرض له الشعب الفلسطيني من أهوال ومؤامرات.

إنّ السعي لتصفية القضية الفلسطينية من مختلف أبعادها سياسة إسرائيلية ثابتة بغض النظر عن رئيس الحكومة الإسرائيلية والأحزاب التي تشارك فيها، وعن الانتخابات أو غيرها، فهناك عمليات مصادرة وتهويد للأرض، خصوصًا في القدس والأقصى، وطرد سكانها، وتجميعهم في معازل مأهولة بالسكان، والإقدام على الاقتحامات والاغتيالات والاعتقالات وهدم المنازل، ومواصلة الحصار وشن العدوان العسكري وراء العدوان على غزة، والتمييز العنصري بين المواطنين داخل إسرائيل، والفروق بين من يحكم في إسرائيل، خصوصًا منذ أن سيطر اليمين الديني والسياسي على التيار المركزي ويحصل على دعم الأغلبية الساحقة، تكمن في التفاصيل والوتيرة والسياسات، وليس في الجوهر.

على الرغم من الإجماع الفلسطيني في رفض إغلاق المؤسسات ومطالبتها بالعمل، فإن هذا الرد دون مستوى التحدي والخطر، ولا يحول دون إقدام قوات الاحتلال على اعتقال موظفي هذه المؤسسات إذا زاولوا عملهم. فالمطلوب موقفٌ رسميٌ مدعومٌ فصائليًا وشعبيًا يرفض الإجراءات الاحتلالية، بما فيها الاقتحامات والاغتيالات وإغلاق المؤسسات، ويوفر ويحمي حق استمرار هذه المؤسسات في العمل، خصوصًا أنها في المناطق التي من المفترض أنها تحت سيطرة السلطة، ضمن ممارسة حق الدفاع عن النفس في وجه القتل، ومنع ممارسة العمل لمؤسسات مرخصة وتعمل وفق القانون الفلسطيني والأعراف والقوانين الدولية؛ حيث يقف الكل الفلسطيني صفًا واحدًا في وجه أي اقتحام.

وحتى يكون للموقف الفلسطيني معنى، لا بد أن يندرج الرد الفلسطيني على إغلاق المؤسسات في سياق تغيير المسار الذي انتهى، ووضع خطة لتنفيذ قرارات الإجماع الوطني فيما يتعلق بإعادة النظر في العلاقة مع الاحتلال والاتفاقات والالتزامات السياسية والاقتصادية والأمنية المترتبة على اتفاق أوسلو، الذي مات وشبع موتًا بالنسبة إلى إسرائيل، ولا تزال القيادة الفلسطينية الرسمية ملتزمة بالتزاماته، وتضع استعادته هدفًا وطموحًا وأملًا وسقفًا أعلى للمرحلة الراهنة لها من دون أن تدرك أنها ولا غيرها يمكنه إحياء العظام وهي رميم.

مطار رامون: عجز أم صفقة؟

منذ أشهر عدة، أعلنت إسرائيل عن عزمها السماح للفلسطينيين باستخدام مطار رامون الذي يقع قرب إيلات، والسبب المعلن لهذا الإجراء اقتصادي، وهو إنقاذ المطار الذي كلف أموالًا كبيرة، ولم يستخدمه المسافرون، ولكن السبب الأهم سياسي؛ حيث إنه يقضي على الآمال الفلسطينية في توفير – لا الآن ولا في المستقبل - أحد مقومات السيادة بإعادة فتح مطار القدس في قلنديا، ومطار غزة، وإقامة مطارات أخرى في أريحا وغيرها كما خطط في بعض الأوقات.

لم تعلق السلطة على هذه الأنباء، على الرغم من أن السماح باستخدام المطار يقوّض ما تبقى من صلاحيات لها، فالمسافر ليس بحاجة إليها، فهو يمكن أن يسافر إذا حصل على الضوء الأخضر من الاحتلال من دون دفع رسوم وبأسعار سفر برًا وجوًا مخفضة ومغرية على الأقل في البداية، واكتفت السلطة على الرغم من كل ذلك بالقول في البداية إن لا علم لها بالأمر، بينما ذكرت ونقلت مصادر إعلام إسرائيلية أن السلطة أُعلِمت بالأمر، وأنها عارضته معارضة وصفتها بالناعمة، وتم افتعال أزمة معبر الكرامة خلال الفترة الأخيرة، واستمر صمت السلطة، وعندما أعلن عن تنظيم رحلات أولاها تمت بالفعل يوم أمس، تساءل الكثيرون: هل موقف السلطة عجز أم ناجم عن صفقة، وإذا كانت صفقة من يقف وراءها: السلطة، أم أفراد منها من وراء ظهرها؟

ولم يبدد هذه الشكوك إعلان وزير المواصلات أن السلطة تعارض قيام الفلسطينيين بالسفر عن طريق مطار رامون، وستنظر في اتخاذ إجراءات ضد شركات السياحة ومن يستخدم هذا المطار من الفلسطينيين من دون أن يتم تنفيذ ذلك، ومن دون موقف رسمي جدي واضح وضوح الشمس، فلن تجرؤ مكاتب السياحة المرخصة لدى السلطة ولا المسافرين على السفر لو هناك رفض حقيقي.

وتعرض موقف السلطة سابق الذكر للسخرية والانتقاد من أوساط شعبية واسعة: أولًا، نظرًا إلى صمتها طوال أشهر، ثم تهديدها اللفظي بمعاقبة من يستخدم مطار رامون. وثانيًا، لأن الآلاف من كبار موظفي السلطة والقطاع الخاص والمنظمات الأهلية وعائلاتهم والحاصلين على بطاقات (VIP) و(BMC) يستخدمون مطار اللد، وهناك إجراءات إسرائيلية اتخذت لتوسيع إصدار تصاريح للسفر عن طريق مطار اللد من دون أن تحرك السلطة ساكنًا.

حتى تثبت السلطة أنها جادة في الرفض، عليها أن تتخذ قرارات وعلى كل المستويات من الرئيس واللجنة التنفيذية، وانتهاء برئيس الحكومة ووزرائها، وتنفذها الشرطة والأجهزة الأمنية والوزارات ذات العلاقة، تقضي بمنع استخدام مطاري رامون واللد، فما هو حرام على الفقراء يجب أن يكون حرامًا على الأغنياء وأصحاب النفوذ، ومن دون ذلك سيبقى التساؤل: صفقة أم عجز؟ كما عليها أن تعمل مع الأردن لتحسين شروط السفر عبر معبر الكرامة، لجهة الوقت والتكاليف والمعاملة، والضغط الفلسطيني الأردني على إسرائيل لتسهيل الإجراءات، وفتح المعبر 24 ساعة كما وعد الرئيس الأميركي جو بايدن في زيارته الأخيرة.

الاحتلال والعدوان يوحدنا ونحن لا نتوحد

إن العدوان والتصعيد ضد شعبنا وقواه الحية يوحد شعبنا في كل الساحات، وهذا يتجلى في العدوان المتعدد الأشكال الذي يستهدف الكل الفلسطيني، وفي تحويل السلطة فعلًا وقولًا إلى سلطة بلا سلطة، وعليها أن تقوم بدور خدمي إداري ووظيفي أمني يخدم الاحتلال، والتصعيد الأخير أدى إلى وحدة الموقف الفلسطيني التي تجسدت في رفض العدوان على غزة، ورفض الحملة الألمانية والإسرائيلية الظالمة على الرئيس، ورفض إغلاق المؤسسات والاغتيالات والاعتقالات والاقتحامات وتهويد الأقصى والقدس كلها، وسياسة التمييز العنصري والتطهير العرقي، ولكنه موقف لم يغيّر السياسات المتبعة، ولم يؤثر في الانقسام البغيض الذي يتواصل ويتعمق، وهذا يجعل وحدة الموقف ليست أكثر من ردود أفعال مؤقتة سرعان ما تزول، في حين باتت الحاجة أكثر من ملحة لإنهاء الانقسام وإنجاز الوحدة في سياق بلورة وتجسيد رؤية شاملة ينبثق عنها مشروع وطني جامع وإستراتيجيات موحدة ومؤسسة وطنية جامعة وقيادة واحدة تتحلى بالإرادة اللازمة.

من الناحية النظرية، يمكن أن يبدأ العمل بالشروع في حوار وطني تمثيلي تنبثق عنه قيادة مؤقتة تقوم ببلورة مشروع وطني يجسد القواسم المشتركة، وتشكيل حكومة وحدة وطنية أولويتها توفير مقومات الصمود وإنهاء الانقسام وتوحيد المؤسسات في سلطة واحدة يتم العمل على تغيير وظائفها والتزاماتها وموازنتها لكي تستجيب للأولويات والمصالح والاحتياجات الفلسطينية؛ حيث يتم دحر الاحتلال وتجسيد استقلال دولة فلسطين، على طريق إنجاز بقية الحقوق والأهداف الفلسطينية، وإعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير لتضم مختلف ألوان الطيف السياسي، وتنظيم انتخابات عامة في مدة أقصاها عام: انتخابات للمجلس التشريعي، والرئاسة، والمجلس الوطني، بما يتناسب وخصائص الشعب الفلسطيني وظروفه.

هل يقدم الرئيس على ذلك، ويجعل خطابه القادم بداية مرحلة جديدة ينهي بها مسيرته بصورة مشرفة، هذا ما نأمله، ولكن لا نتوقعه جراء عدم وجود ما يكفي من مؤشرات لكي نثق بذلك؛ ما سيؤدي إلى استمرار التوهان والدوامة والتدهور في ظل إستراتيجية ردود الأفعال والبقاء والانتظار.