بقلم: د. اماني القرم ‏

هدف أي نظام احتلالي هو الدوام، ولا يمكن للاحتلال أن يدوم دون السيطرة على ثلاثة عوالم في البلد ‏المحتل: عالم الاشياء، وعالم الناس، وعالم المعاني. الاشياء هي الارض والاقتصاد وكل ما يتعلق بخيرات ‏البلاد التي تؤدي الى التحكم بعالم الناس وتضييق الخناق عليهم لزيادة صعوبة حياتهم. أما عالم المعاني ‏فهو الهدف المنشود بالنسبة للاحتلال والاقل تكلفة والأشد تأثيراً .. المعاني هي التي تميز البشر ورؤيتهم ‏للحقيقة، فما تراه "تحريضي" أراه أنا "حق" . والسيطرة على عالم المعاني يعني احتلال العقل واعادة تشكيل ‏الذاكرة عبر سياسة ممنهجة بعيدة المدى أساسها التعليم المدرسي. والتحكم بالعوالم الثلاثة لا يتم عبر ‏عمليات منفصلة بل هي استراتيجية متماسكة ومتقاطعة . ‏
‏ وحيث أن المنظومة التعليمية هي الاساس في التنشئة الثقافية والسياسية وتشكيل الوعي والتذكير ‏بالماضي، فإن هدف كل احتلال هو تدمير هذه المنظومة. مثلاً سعت فرنسا لتمكين احتلالها للجزائر ‏تفكيك الامة الجزائرية والهوية المشتركة ، ولتحقيق ذلك اتبعت استراتيجية ذات مسارين للتعليم : الاولى: ‏تعليم البعض من الجزائريين المناهج والثقافة الفرنسية، والثانية اهمال التعليم الجزائري وتفريغه من محتواه ‏وتجفيف منابعه المالية. هكذا تفعل اسرائيل بالفلسطينيين وتحديداً بمدينة القدس وأهلها مع تفنن وبراعة في ‏تطوير مستمر لأساليب الاعتداءات والاستفزازات . من جانب صعوبة حياة الأهالي في القدس وخنقهم ‏بسياسات قهرية ينعكس سلبا على منظومة التعليم الفلسطينية، فالطالب الذي يواجه واقعا مادّيا وحياتيًّا مريراً ‏في أسرته وفي طريقه الى المدرسة وفي المدرسة ذاتها التي تفتقر الى ادنى مقومات التعليم يجد نفسه لا ‏شعوريا في مقارنة مع الشطر الغربي من البلاد . وكذلك المعلم الذي يعاني من قلة الراتب وارتفاع مستوى ‏المعيشة والانتظار ساعات على الحواجز وافتقاره للأدوات التعليمية المطلوبة ويواجه أحيانا الاعتقال . من ‏جانب اخر تعمد حكومة الاحتلال الى ربط تمويل وترميم المدارس الفلسطينية بالتوقف عن تدريس المنهاج ‏الفلسطيني واستبداله بالإسرائيلي، مؤخراً تم رصد 200 مليون شيقل لتشجيع زيادة عدد الطلاب للالتحاق ‏بدراسة المنهاج الاسرائيلي . ومن جانب ثالث تستمر اسرائيل في الادعاء كذبًا ان المنهاج الفلسطيني ‏تحريضي حتى صدقتها الدول الاوروبية.‏
اصعب ما يمكن ان يواجهه الانسان هو الهزيمة الداخلية التي تبدأ بزعزعة ثوابته ومعتقداته وقناعاته ..فما ‏بال الانسان الفلسطيني الذي يقع عليه جهداً مركبا : من جهة صعوبة الحياة بشكل عام مثل باقي البشر ‏ومن جهة أخرى مواجهة اسرائيل . الصراع على الارض وإجراءات اسرائيل التهويدية في المدينة المقدسة ‏لقهر السكان في جميع مناحي حياتهم ينتج عنه أحداثا مؤلمة وصادمة لأبناء المدينة، يمكن أن تؤدي بهم ‏إلى القلق والغضب وانعدام الثقة بالمستقبل والتمرد على الماضي والوصول الى قناعة عدم القدرة على ‏العيش والتطور بشكل طبيعي اسوة بباقي البلدان. وعليه فمساعدة اهالي القدس في تعليم أبنائهم فريضة ‏واجبة على الكل العربي والفلسطيني، وبدلاً من التبرع لبناء مسجد هنا او هناك، فالأولى هو التبرع لدعم ‏قطاع التعليم لأبناء القدس وتعزيز وتحسين ظروف المعلمين، ودعم المدارس التي تتبع الجمعيات الخيرية ‏والمؤسسات والكنائس، ومنح امتيازات للطلاب الفلسطينيين الذين يدرسون المنهاج الفلسطيني عبر منح ‏جامعية وفرص عمل مستقبلية . وتشكيل لجان حكومية وأهلية مختصة بمتابعة ملف التعليم في القدس.. ‏هذا فقط من أجل مساعدتهم على جعل التعليم أداة لتمكين الصمود. ‏
وبرأيي أن جزئية الصراع الأهم بيننا وبين اسرائيل هو صراع للسيطرة على العقول والقلوب ما بين واقع ‏فرضته، وماض ساكن في عقل وقلب كل فلسطيني بالقدس مكوّن من طبقات متتالية من الذكريات غير ‏المنسية والمتوارثة، تهدف اسرائيل لجعل الاول هو الحقيقة القائمة المسيطرة على الثاني لفصله عن الارتباط ‏بجذوره واحتلال عقله كما احتلت أرضه . وهذه الحرب القائمة بين الواقع والذاكرة لن تهدأ أبداً . أليست ‏اسرائيل من أقنع العالم وبعض العرب أننا الفلسطينيون اصحاب الفرص الضائعة .. رغم أنه لم يكن هناك ‏فرص أصلا! ‏