هدف أي نظام احتلالي هو الدوام، ولا يمكن للاحتلال أن يدوم دون السيطرة على ثلاثة عوالم في البلد المحتل: عالم الاشياء، وعالم الناس، وعالم المعاني. الاشياء هي الارض والاقتصاد وكل ما يتعلق بخيرات البلاد التي تؤدي الى التحكم بعالم الناس وتضييق الخناق عليهم لزيادة صعوبة حياتهم. أما عالم المعاني فهو الهدف المنشود بالنسبة للاحتلال والاقل تكلفة والأشد تأثيراً .. المعاني هي التي تميز البشر ورؤيتهم للحقيقة، فما تراه "تحريضي" أراه أنا "حق" . والسيطرة على عالم المعاني يعني احتلال العقل واعادة تشكيل الذاكرة عبر سياسة ممنهجة بعيدة المدى أساسها التعليم المدرسي. والتحكم بالعوالم الثلاثة لا يتم عبر عمليات منفصلة بل هي استراتيجية متماسكة ومتقاطعة .
وحيث أن المنظومة التعليمية هي الاساس في التنشئة الثقافية والسياسية وتشكيل الوعي والتذكير بالماضي، فإن هدف كل احتلال هو تدمير هذه المنظومة. مثلاً سعت فرنسا لتمكين احتلالها للجزائر تفكيك الامة الجزائرية والهوية المشتركة ، ولتحقيق ذلك اتبعت استراتيجية ذات مسارين للتعليم : الاولى: تعليم البعض من الجزائريين المناهج والثقافة الفرنسية، والثانية اهمال التعليم الجزائري وتفريغه من محتواه وتجفيف منابعه المالية. هكذا تفعل اسرائيل بالفلسطينيين وتحديداً بمدينة القدس وأهلها مع تفنن وبراعة في تطوير مستمر لأساليب الاعتداءات والاستفزازات . من جانب صعوبة حياة الأهالي في القدس وخنقهم بسياسات قهرية ينعكس سلبا على منظومة التعليم الفلسطينية، فالطالب الذي يواجه واقعا مادّيا وحياتيًّا مريراً في أسرته وفي طريقه الى المدرسة وفي المدرسة ذاتها التي تفتقر الى ادنى مقومات التعليم يجد نفسه لا شعوريا في مقارنة مع الشطر الغربي من البلاد . وكذلك المعلم الذي يعاني من قلة الراتب وارتفاع مستوى المعيشة والانتظار ساعات على الحواجز وافتقاره للأدوات التعليمية المطلوبة ويواجه أحيانا الاعتقال . من جانب اخر تعمد حكومة الاحتلال الى ربط تمويل وترميم المدارس الفلسطينية بالتوقف عن تدريس المنهاج الفلسطيني واستبداله بالإسرائيلي، مؤخراً تم رصد 200 مليون شيقل لتشجيع زيادة عدد الطلاب للالتحاق بدراسة المنهاج الاسرائيلي . ومن جانب ثالث تستمر اسرائيل في الادعاء كذبًا ان المنهاج الفلسطيني تحريضي حتى صدقتها الدول الاوروبية.
اصعب ما يمكن ان يواجهه الانسان هو الهزيمة الداخلية التي تبدأ بزعزعة ثوابته ومعتقداته وقناعاته ..فما بال الانسان الفلسطيني الذي يقع عليه جهداً مركبا : من جهة صعوبة الحياة بشكل عام مثل باقي البشر ومن جهة أخرى مواجهة اسرائيل . الصراع على الارض وإجراءات اسرائيل التهويدية في المدينة المقدسة لقهر السكان في جميع مناحي حياتهم ينتج عنه أحداثا مؤلمة وصادمة لأبناء المدينة، يمكن أن تؤدي بهم إلى القلق والغضب وانعدام الثقة بالمستقبل والتمرد على الماضي والوصول الى قناعة عدم القدرة على العيش والتطور بشكل طبيعي اسوة بباقي البلدان. وعليه فمساعدة اهالي القدس في تعليم أبنائهم فريضة واجبة على الكل العربي والفلسطيني، وبدلاً من التبرع لبناء مسجد هنا او هناك، فالأولى هو التبرع لدعم قطاع التعليم لأبناء القدس وتعزيز وتحسين ظروف المعلمين، ودعم المدارس التي تتبع الجمعيات الخيرية والمؤسسات والكنائس، ومنح امتيازات للطلاب الفلسطينيين الذين يدرسون المنهاج الفلسطيني عبر منح جامعية وفرص عمل مستقبلية . وتشكيل لجان حكومية وأهلية مختصة بمتابعة ملف التعليم في القدس.. هذا فقط من أجل مساعدتهم على جعل التعليم أداة لتمكين الصمود.
وبرأيي أن جزئية الصراع الأهم بيننا وبين اسرائيل هو صراع للسيطرة على العقول والقلوب ما بين واقع فرضته، وماض ساكن في عقل وقلب كل فلسطيني بالقدس مكوّن من طبقات متتالية من الذكريات غير المنسية والمتوارثة، تهدف اسرائيل لجعل الاول هو الحقيقة القائمة المسيطرة على الثاني لفصله عن الارتباط بجذوره واحتلال عقله كما احتلت أرضه . وهذه الحرب القائمة بين الواقع والذاكرة لن تهدأ أبداً . أليست اسرائيل من أقنع العالم وبعض العرب أننا الفلسطينيون اصحاب الفرص الضائعة .. رغم أنه لم يكن هناك فرص أصلا!