إن إسرائيل كدولة احتلال لن تسمح لأي دولة تقيم العلاقات معها بالضغط عليها، طالما هنالك مصالح مشتركة تحدد طبيعة تلك العلاقات وتحظى فيها إسرائيل باليد الطولى وكفة الميزان الراجحة بدعم الحركة الصهيونية العالمية، بل أن دولة الأحتلال حتى اللحظة هي من يتمتع بالقدرة على الضغط والخداع والتنكر للأتفاقيات والتفاهمات مع الأطراف الأخرى طالما هي دولة احتلال لا تلتزم بالاتفاقيات والقرارات الأممية ولا بالقانون الدولي وليست طرفاً بالعديد من المعاهدات الدولية، وتمارس الاستعمار الأستيطاني والتمييز العنصري والفوقية الدينية اليهودية وتسوق نفسها من خلال فزاعاتها "كضحية التاريخ" التي يتوجب "انصافها من الظلم" و"حمايتها من المخاطر".
ومن هنا فقد يكون الخلاف الأمريكي الإسرائيلي وفق ما يعلن عنه أن صح حول اتفاق الملف النووي مع إيران اذا استمر هو بداية تضارب مصالح بالعلاقات بينهم بخصوص قضايا الشرق الأوسط خاصة مع التغيرات الدولية الجارية بالعالم اليوم ورؤية الولايات المتحدة لاستراتيجياتها بموضوع الشرق الأوسط الجديد.
ببساطة ان إسرائيل تمارس بقوة الحركة الصهيونية العالمية التي انهت مؤتمرها الأخير في مدينة بازل الاسبوع الماضي السطوة على العديد من مواقع القرار بالغرب، وهي تُعرف نفسها كدولة يهودية قبل ان تكون "ديموقراطية"، فهي تمارس الجرائم دون خوف من اي محاسبة دولية جادة، وتمارس الفوقية اليهودية والتمييز العنصري إلى جانب الأحتلال الاستيطاني وتعتمد دائما العدوان العسكري وفي كل الاتجاهات لتصدير ازماتها خاصة بالوقت الذي لم تستطيع فيه تشكيل حكومة مستقرة خلال السنوات الماضية واقتراب موعد الانتخابات الجديدة فيها، التي حتى اللحظة لم تظهر الاستطلاعات امكانية تشكيل حكومة جديدة من اي معسمر بحكم ان كلا المعسكرين الصهيونيين لا يستطيع احدهم حسم 61 مقعداً. وبالتالي ان ما يجري اليوم هو البحث عن ما يشكل قاعدة وحدة لكافة الأحزاب الصهيونية واستغلال الدم الفلسطيني في معاركهم الانتخابية.
إن الأزمة القائمة منذ ذلك التاريخ بشأن التشكيل الحكومي في دولة الاحتلال لن يكون حلها سهلاً، بل وستتعمق لتنعكس على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي فيها، وستزداد الانتقادات الدولية بشأن سياسات الابرتهايد فيها حتى من منظمات يهودية غير صهيونية حول العالم، مما سيدخل الحركة الصهيونية في أزمة متغيرات تتعلق بالوجه "الأخلاقي الحضاري" لإسرائيل وما له علاقة بتراجع الهيمنة الأمريكية وقطبية الغرب الاحادية المساند الرئيسي لها والتي ما زالت تدور في دعم التعاون المشترك مع اسرائيل وفق ما أكده أيضا قبل شهر كافة وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي بأحياء مجلس التعاون المشترك، رغم مواقفهم اللفظية من ادانة الاستيطان والتي لم ترتقي إلى مستوى المحاسبة والعقوبات، وهذا ما يدفع لشيئ من التفاؤل.
لكن دولة الاحتلال ستحاول بالتالي تصدير ازماتها الداخلية باتجاه مزيدا من القمع بحق شعبنا ومشاريع الاستيطان والتهويد لخلق حالة من الإجماع القومي الصهيوني الديني والمنافسة على حساب دماء ابناء شعبنا.
أمام هذه الوقائع فأن الفترة القادمة ستاتي بايضاحات اكثر حول انعكاسات هذه التحولات الجارية، هذا أن لم تأتي بحروب جديدة سيحاول الغرب وإسرائيل إدارتها تنفيذا لسياساتهم ورؤية الليبرالية المتوحشة ولمنع الانهيار السريع للقطبية الاحادية، وهذا الامر هو ما يشكل مصدر التشاؤم.
فكل شبر من فلسطين التاريخية تعتبره اسرائيل مقدساً وفق الرؤية التوراتية للحركة الصهيونية وأمنياً في أنٍ واحد لحماية توسعها كمبداء في إقامة كيانها الذي لا تُعرفهُ حدود لتحقيق مشروعها الاستعماري على حساب حقوق شعبنا الفلسطيني صاحب الأرض وعلى حساب القانون الدولي وكل المواثيق الأممية، أن الاستقرار والسلام يُرهبها ولا يحقق لاِجماع ووحدة الحركة الصهيونية مبتغاها وديمومتها.
ولذلك ولتلك الأسباب وغيرها ستستمر دولة الاحتلال في ارتكاب جرائمها في كل المدن والقرى والمخيمات الفلسطينة في كافة محافظات الوطن كما هو حاصل اليوم من ارتقاء الشهداء وتوسيع الاعتقالات واقرار مزيدا من قرارات توسيع الاستيطان حتى رغم التحفظ الأمريكي المعلن، ولن يصل هذا المجتمع الاستعماري "الإسرائيلي" اليهودي الذي لا يحمل صفة مكونات شعب إلى النتيجة والقناعة بالمدى القريب التي وصلت لها بالتاريخ شعوب ودول استعمارية أخرى، الا اذا كان استمرار استعماره الاحتلالي مكلفا من كل الجوانب الدولية والمحلية ويُعرض وحدته إلى الخطر والى تفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية الداخلية كما والى حالته الوجودية.
فهذا المجتمع الاستعماري في إسرائيل ونظامه الفاشي الذي يحظى بدعم كامل من سياسات الهيمنة والغطرسة الأمريكية، كذلك التغاضي عن جرائمه من بعض الدول الاوروبية، لا يدافع عن حالة أمنه المزعوم وانما عن استمرار احتلاله الاستيطاني كمصدر لاستمرار وجوده على حساب مقدرات وأرض شعبنا الفلسطيني. لذا فمن حق شعبنا أمام هذا الواقع مقاومة الاحتلال بالوسائل المتاحة خاصة منها الشعبية التي نصت عليها القوانين الدولية كما فعلت كل الشعوب الأخرى في مسيرة كفاحها الوطني التحرري، واستمرار تعرية سياسات دولة الاحتلال، بل ومقاطعة هذه الدولة أمام كل المحافل الدولية والاستفادة من وجود حالة من التضامن الدولي بالاوساط الشعبية والرأي العام حول العالم.
سيكون على راس ذلك العمل السياسي في هذا الاطار قريبا خلال الشهر الحالي التوجه لهيئة الأمم المتحدة لطلب الاعتراف بالعضوية الكاملة لدولة فلسطين أثناء انعقاد الجمعية العامة كما أعلن عن ذلك الأخ الرئيس أبو مازن، هذا الاستحقاق الاممي الذي يشكل احد اشكال تجسيد حق تقرير المصير والدولة وفق الشرعية الدولية وقراراتها، بداية من خلال طرح ذلك في مجلس الأمن الأمر الذي سيرفضه الأمريكان بالتأكيد وفق ما صرح به العديد منهم ووفق الرسائل التي اوصلوها، وبالتالي ستكون الخطوة الثانية هي التوجه مرة أخرى للجمعية العامة وفق نصوص النظام الأساسي لهيئة الأمم لاستكمال قرارها المتخذ عام2012، الأمر الذي تعارضه الولايات المتحدة لكن دون حقها بالفيتو هنالك.
باستثناء الولايات المتحدة التي ترتبط باسرائيل بتعاون استراتيجي وبمحددات من العلاقات التي ترسخت عبر خصوصية نشؤ هاتين الدولتين وتطور الفكر السياسي فيهما بشكل يتميز عن العلاقات بين اي دولتين نظرا لطبيعة تلك المحددات، ورغم ما تحدث عنه امس المندوب الأوروبي لعملية السلام عن ضرورة تحريك المسار السياسي لعملية السلام التي يؤمنون بامكانية تحريكها من وجهة نظره لاشاعة الاستقرار والازدهار والامن والحريات للطرفين، الا اَن الأوان قد حان ومنذ فترة طويلة أن ينسجم الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء مع نفسه قبل الحديث عن دوره في عملية السلام، ومع ما تنص عليه نصوص مبادئ نشؤ الاتحاد الأوروبي نفسه من جهة، ومع مواقف شعوب دوله وقواها السياسية الديمقراطية التقدمية بالاعتراف الفعلي بدولة فلسطين ودعم توجهنا بطلب العضوية الكاملة بهيئة الأمم من جهة اخرى، واتخاذ الإجراءات العقابية اللازمة بحق دولة الاحتلال، بما ينهي سياسة ازدواجية المعايير والنفاق السياسي عند البعض منهم، خاصة وان عقد مجلس الشراكة الأوروبية الإسرائيلية بات قريبا خلال الشهر القادم، كما وعلى الاتحاد الاوروبي الابتعاد عن التبعية للسياسات الخارجية للولايات المتحدة التي تاخذ أوروبا إلى المجهول في مواجهة الشرق وتحديدا منه الصين وروسيا سياسيا وحضاريا بما يهدد استقرار هذه القارة واستمرار وجود الاتحاد الأوروبي نفسه ودفع فاتورة سياسات الناتو.
إن موقف تلك الدول من هذا التوجه الفلسطيني اليوم بات ضروريا، بل ويجب ان يشكل معيار علاقاتنا مع هذه الدول بما تحقق مواقفها اقترابنا الفعلي من إنهاء الاحتلال وتحقيق الحرية والاستقلال الوطني في دولتنا أسوة بدول الاتحاد الأوروبي نفسه ودول العالم الاخرى التي خاضت شعوبها كفاحا من أجل حريتها واستعادة استقلالها الوطني عبر التاريخ السياسي لها بعد مراحل الاستعمار ومرحلة الحرب العالمية الثانية.
قبل فترة وجيزة وعلى شاشة القناة الاسرائيلية الاولى باللغة العبرية اي القناة الرسمية، فأن نائب وزير الخارجية السابق داني ايلون، وقد شغل منصب مندوب اسرائيل في الأمم المتحدة لفترة ما وسفير اسرائيل في امريكا، قال ما يلي: "اعتقدوا ان السلام والتطبيع مع العالم العربي ياتي من خلال السلام مع الفلسطينيين، وهذا اثبت فشله اليوم، ويجب البحث عن معادلة أخرى تقول ان السلام مع الفلسطينيين ياتي من خلال التطبيع والسلام مع الدول العربية "المعتدلة"، خاصة وأن تلك الدول المطبعة تدعم هذا التوجه، وبعد ذلك قد يصبح من الممكن توقيع اتفاقية سلام مع الفلسطينيين او اثفاقية مرحلية لفترة طويلة"، بحسب قول ايلون.
هذا الكلام واضافة الى ما يجري من ضغوط على الأوروبين واستمرار الضغط الأمريكي علينا دون مقابل لنا سوى انتظار المسيح الثاني وفق ما قاله بايدن خلال زيارته الأخيرة، حتى ودون تنفيذ اي من الوعودات البسيطة الشكلية لعدم قدرة الضغط على دولة الاحتلال، لا بد من تسجيله لفهم ما يجري في الحاضر والمستقبل القريب، الأمر الذي يتطلب منا اليوم توجيه الاهتمام في هذه المرحلة باوضاعنا وبناؤنا الداخلي بما يؤهل لتمكين شعبنا من الصمود ومواجهة التحديات في إطار رؤية عمل استراتيجية متكاملة الجوانب السياسية بعيدة عن مواقف ردود الأفعال، لنرسم بها معالم المستقبل الذي نريد وصولاً لاستكمال مرحلة تحررنا الوطني بدحر الاحتلال الاستيطاني.