كتب رئيس التحرير: منذ تأسيس السلطة الفلسطينية على إثر توقيع اتفاقية إعلان المبادئ ما بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، دأبت إسرائيل على إضعاف هذا الكيان الفلسطيني الذي كان ينظر إليه الفلسطينيون على أنه نواة أو بذرة لدولتهم المستقبلية، تلك النواة التي أردات لها تل أبيب أن تموت قبل أن تدخل التربة، وقبل أن تبدأ حياتها!
مسلسل طويل من الإضعاف ونزع الثقة والتشويه مورس من قبل السياسية الإسرائيلية تجاه السلطة الفلسطينية، وهو أمر تحقق بشكل كبير فتراجع الالتفاف الشعبي الكبير حول الثورة الفلسطينية ورموزها الذين عادوا إلى أرض الوطن على إثر أوسلو، وصار الشارع ينظر إلى السلطة على أنها خصم في بعض الأحيان، وعلى أنها مؤسسة فساد في أحيان أخرى.
يظهر الإعلام الإسرائيلي في هذه المرحلة بمظهر المتفاجئ من أن ضعف السلطة الفلسطينية أدى إلى غض طرف السلطة عن ظاهرة المسلحين في الضفة الغربية، وكأن سياسية خنق السلطة منذ نشأتها لم تكن بحسبان الإعلام العبري أو السياسيين الإسرائيليين، إلا أن النار حينما وصلت أصابع المستوطنين بدأت تل أبيب تتفطّن إلى ضعف السلطة الفلسطينية.
لا ننكر وجود ضعف بنيوي في السلطة الفلسطينية، وفساد في مؤسساتها، وهو ما تطالب بإنهائه كل الجهات الفلسطينية ومؤسسات المجتمع المدني، للوصول إلى دول المؤسسات أو على أقل تقدير سلطة المؤسسات، إلى حين إنشاء الدولة المستقلة.
إسرائيل تتهم السلطة الفلسطينية التي أضعفتها حتى العجز عن دفع الراتب بأنها تغض الطرف عن ظاهرة المسلحين في الضفة الغربية التي تزداد وتتعمق يوما بعد يوم، حيث أصبحت السلطة فعليا لا سيطرة لها في مناطق معينة كالمخيمات، وحتى أجزاء من المدن الرئيسية.
في حوار مع أحد السياسين قبل أعوام قال في حديث شخصي رداً على سؤال: "ألا تخشون من ظاهرة المسلحين التي تزداد بوتيرة سريعة وأن تكون المواجهة معكم وفي وجهكم؟ أجاب بلا تردد: هذا ممكن، ولكن ما الضرورة لوجودنا بهذا الضعف؟ الشيء الحتمي هو أننا نحن وهم – أي المسلحين- سننفجر بوجه إسرائيل، علينا ان ننتظر، نحن أصبحنا سلطة بلا سلطة و بلا إمكانات. انتهى قوله.
إسرائيل نفسها تعترف أنه مع كل اقتحام للمدن والمخيمات يضعف السلطة الفلسطينية وهذا بالمحصلة لا يصب بمصلحة اسرائيل التي تحتاج لكتائب بل وملايين الدولارات لإعادة استلام الضفة الغربية وإنهاء الأجهزة الأمنية الفلسطينية، والواقع هو أن إسرائيل تخشى من انفجار الضفة الغربية أكثر من خشيتها المواجهة مع إيران أو قطاع غزة أو حزب الله وذلك للتداخل الجغرافي الكبير بين الفلسطينيين والإسرائيليين والذي يمنع الاستمرار في مشاريع الاستيطان ويوقع خسائر بشرية في صفوفهم، والخطر الأكبر والدائم على حركة وأرواح المستوطنيين بالضفة.
الزيارات الأمريكية على المستوى الأمني والسياسي تكاد لا تنقطع وبشكل متواصل للقيادة الفلسطينية في محاولة دائمة لاحتواء أي توتر بالضفة، إلا أن السلطة الفلسطينية لا تريد أن تتصادم مع أي من المسلحين في ظل انعدام المستقبل لها، بل وانعدام الأفق السياسي والاقتصادي لشعبها، حيث لم تَعُد السلطة مقدمة دولة ولا حتى مقدمة لحُكم ذاتي، وبالتالي فإنها لا تريد أن تكون أداة بيد إسرائيل والإدارة الأمريكية لتحقيق الأمن للمستوطنين، في ظل غياب الأمن السياسي والمالي والشخصي للفلسطينيين.
ما تشهده الضفة الغربية وتحديداً منذ بداية هذا العام تطور نوعي في المواجهات، ويكاد يكون مدروساً، حيث باتت كل عملية اقتحام إسرائيلية تواجه بإطلاق نار كثيف من المسلحين من كل الفصائل ومن ضمنها حركة فتح والتي هي الحزب الحاكم، حتى أن تلفزيون فلسطين الرسمي بدأ منذ مدة يبث مهرجانات مسلحة بمدن شمال الضفة وعلى الهواء مباشرة بدل سياسته القديمة "السلمية".
إسرائيل وأمريكا تعلمان جيدا أن هذا الوضع لا يمكن أن يهدأ إلا بحل سياسي على الأرض وبمنح الإمكانات للسلطة الوطنية، والحل السياسي برأيهم ليس بالضرورة أن يكون دولة فلسطينية والتي لا تتوافق مع قناعات من يَحكم اسرائيل وسقفهم منح الفلسطينيين حُكماً ذاتياً، حيث ان حُلم الدولة للفلسطينيين لازال بعيداً جداً وذلك لأسباب كثيرة وعلى رأسها غياب شريك إسرائيلي، والممكن برأيهم أن يكون بإعطاء السلطة صلاحيات ودعم اقتصادي أكبر و وقف الاقتحامات اليومية وإعادة التنسيق الأمني بفعالية أكبر.
وهنا لم نذكر دور الاتحاد الأوروبي الذي بات واضحا أنه ينفذ تعليمات وأجندات الإدارة الأمريكية والإسرائيلية ويقتصر دوره على بيانات صحفية أغلبها شعوره بالقلق على اغتيال أو اقتحام أو اعتقال الفلسطينيين، والدور المنوط به من دعم مشاريع وغيره هو دور مرسوم له من إسرائيل وامريكا ويستخدم لفرض الابتزاز أيضا على السلطة بخصوص رواتب الأسرى أو تغيير المناهج في المقابل لا يفرضون شيئاً على إسرائيل رغم جرائمها.
جزء كبير من المسلحين أيضا من حركة الجهاد الاسلامي، فيما فقدت حركة فتح السيطرة على اتباعها الذين انخرطوا بهذا العمل المسلح.
نحن أمام حالة معقدة ومفتوحة على كل الاحتمالات كحالة الانتفاضة الثانية، بل كحال الفلسطينيين قبل عام 1965، وإسرائيل تدرك تماما أنها أمام خيارين، إما انتفاضة مسلحة شاملة تعيد الأمور لمرحلة الصفر أو أن تعطي إسرائيل أفقاً سياسياً وتمنح السلطة هيبتها وإمكاناتها الاقتصادية والسيطرة الكاملة على الأرض.
الحديث الإسرائيلي عن الحالة المسلحة في شمال الضفة الغربية هو في الوقت الحالي صحيح، ولكنه سرعان ما ينتقل إلى كل الضفة الغربية وما حدث مؤخرا في سلواد هو مؤشر للمستقبل بل بداية لتوسع المواجهة مع الاحتلال.
خلاصة القول أن الضفة الغربية على فوهة بركان، والصراع مع الاحتلال يبدأ من الصفر بعيداً عن الاتفاقيات والتفاهمات، وما يجري في الضفة الغربية يحتمل خيارين فقط سيتحقق أحدهما في وقت قريب جدا: إما انتفاضة مسلحة وزيادة للعمليات العسكرية أو حل سياسي مُرضٍ للفلسطينيين.