تبيّنَ لي من خلال الردود التي تلقّيتها على المقال السابق حول مؤتمر حركة فتح، على مختلف وسائل الاتصال أن مسألة عقد المؤتمر من عدمه ليست محسومة ــ كما تبدو الأمور في الظاهر ــ وأن الخلافات والاختلافات حول مبدأ انعقاده ما زالت قائمة بشدّة، وأن هذه المسألة بالذات هي العنوان الأوّل والأهمّ في إطار هذا التنافر حولها.
كما تبيّنَ، أيضاً، أنّ «الصراع» حول مبدأ عقد المؤتمر من عدمه ليس سوى التكثيف الذي يُعبّر عن جوهر «الأزمة» التي تعيشها الحركة في هذه الظروف المصيرية، وذلك بالنظر إلى أن الخلاف والاختلاف على عقد المؤتمر هو اختلاف وخلاف على دور الحركة ومكانتها، وعلى مستقبل ومصير الحركة، وهو ــ بالتالي ــ صراع «وجودي»، إذا جاز التعبير، وذلك لأن الدور والمكانة في الظروف المفصلية التي تمرّ بها الحركة، ويمرّ بها الواقع الوطني ستتحدد إلى درجة بعيدة بالنتائج التي سيفرزها المؤتمر.
أقصد أن الذين يعارضون عقد المؤتمر الآن، وقبل أن يتم «التأكّد» من «منع» أصحاب أجندة الجناح «الإقصائي» من السيطرة، وإحكام القبضة على مقاليد «السلطة» في الحركة يخشون أن ينتهي المؤتمر إلى «تحويل» حركة فتح إلى حزب «جديد» للسلطة، والتي باتت برأيهم ــ رأي المعارضين ــ تتطلب مثل هذا التحويل، وبات «ضبط» الحركة لشروط هذا التحول هو الهدف الأوّل لعقد المؤتمر، وهو ما يهدد ليس فقط دور ومكانة الحركة، وإنما وجودها فعلاً.
في هذا الإطار يرى هؤلاء أن الإرث الوطني العميق والعريق للحركة لن يشفع لها، ولن يمكّنها من الصمود في ظل «العمل» الإسرائيلي النشط والمحموم ضد الكادر الكفاحي في هذه الحركة، وفي ظل «التحضيرات» الإقليمية والدولية لتغيير «حصان المراهنة» من «فتح» إلى حركة حماس، وفي ظل افتقاد الحالة الوطنية لعوامل النهوض والاستنهاض الوطني بعد أن تكون حركة فتح قد أُدخلت إلى نفق الحزب «الجديد» للسلطة.
بل ويذهب كل هؤلاء إلى أن مصير الحركة في هذه الحالة لن يكون أفضل من حال حزب «العمل» الإسرائيلي ــ على سبيل المثال ــ الذي قام ولعب الدور الأكبر في إنشاء وتأسيس دولة إسرائيل، وانتهى إلى حزب سياسي هامشي يصارع البقاء ــ مجرد البقاء ــ على الخارطة السياسية والحزبية في الدولة التي أسّسها. ويضرب هؤلاء عشرات الأمثلة من الواقع العربي في الجزائر وسورية والعراق واليمن.
وبرأيي أن الأمور في الحالة الفلسطينية يمكن أن تصل إلى ما هو أبعد وأخطر من ذلك، لأن المشروع الوطني التحرري الفلسطيني لم يتمكن من إقامة الدولة بعد، وأن تجيير هذا المشروع للدفاع عن سلطة ــ لا سلطة لها ــ وعن سلطة يجري على قدمٍ وساق «اعتماد» بدائل عنها ــ على ما تبدو عليه الأمور ــ والاستمرار في إضعافها والنهش من لحمها الحيّ على كل المستويات، وبمختلف الوسائل الاقتصادية والسياسية، إضافةً إلى «استحضار» البديل «الاجتماعي» لها.. إن كل ذلك يجعل من زجّ حركة «فتح» لتلعب مثل هذا الدور هو بمثابة انتحار سياسي معلن ومؤكّد.
نلاحظ هنا أن معارضي عقد المؤتمر يلتقون مع أصحاب الرأي القائل إن المؤتمر سيتحول إلى مؤتمر «إقصائي» رغم أنهم لا «يُقاتلون» من أجل «منع» انعقاده، وهم لا يعبّرون عن رفضهم لهذا الانعقاد، وربما ما زالوا يراهنون على عدم قدرة الهيئات القيادية في الحركة على إما على ترتيبات الانعقاد، أو «فرض» إرادتها على المؤتمر.
أما القواعد الفتحاوية التي تؤيد عقد المؤتمر، وترى نفسها في تناغم وانسجام مع الهيئات والمؤسسات الرسمية العليا للحركة فإنها لا ترى في كل الأطروحات السابقة سوى حالة «احتجاجية» معهودة في تاريخ الحركة، وهي ليست مؤثرة إلى الدرجة التي تتحدث بها هذه الحالة الاحتجاجية عن نفسها، وهي في الغالب ليست من الجهات والأوساط الفاعلة في الحركة، وهي على تماسٍ مع نفسها وليس مع قواعد الحركة الممتدة في كل تجمعات الشعب الفلسطيني، وهي في نهاية الأمر ليست أكبر أو أكثر من حالة «تذمّرية» وصلت إلى الإحباط واليأس وفقد الأمل.
وترى هذه القواعد أن الحالة الكفاحية المتصاعدة للحركة في الضفة، وخصوصاً في نابلس وجنين والقدس هي حالة كفاحية وطنية تنتمي للحركة وليست جزءاً متمرداً عن الحركة، وأن هذه الظاهرة هي الوجه الآخر لحركة «فتح» الحقيقية التي تتحمّل «أوزار السلطة» وأعباء الكفاح الوطني، وهي وجه ثالث للحركة التي تقاوم وتتصدّر المقاومة الشعبية، وتقوم بكل الأنشطة الممكنة في الخارج والشتات، وهي التي تتحمل مسؤوليات كبيرة في مؤسسات السلطة والمنظمة، وهي التي تتابع العمل السياسي والدبلوماسي ضد إسرائيل في كل مؤسسات القانون الدولي، وفي كل مكان من مجالات عمل الجاليات الفلسطينية والنشاط مع الأحزاب والمنظمات السياسية والاجتماعية على المستويات العربية والإقليمية والدولية.
وفي إطارٍ أكثر تحديداً فإن هذه القواعد الفتحاوية الممتدة ترى أن «قواعد» اللعبة السياسية في الظرف الفلسطيني لا تشكل شروطاً على تحول الحركة إلى حالة كفاحية عارمة، وهي ليست قيوداً تكبّل الحركة أو تحدّ أو تمنع التصدي للمشروع الإسرائيلي لا بصورة يومية وعملية، ولا بصورة خاصة إذا لزم الأمر، ولهذا فإن المؤتمر هو محطة ستنقل الحركة من واقع «حزب» السلطة الذي ما زال في طور الخمول النسبي إلى واقع «التململ» على طريق الصدام الأشمل مع الاحتلال، وحينها لن تكون المسألة هي مسألة حزب السلطة، وإنما كيفية إحداث تغيرات نوعية على دور السلطة وصيرورة تحولها إلى مؤسسة وطنية للإدارة الاجتماعية في إطار هذا الصدام وليس من خارجها..!
وترفض هذه القواعد الممتدة «التصنيفات» القائمة في المحيط الوطني كله، وترى أن سياسة وفكر وممارسة «التعليب» السياسي ليست صحيحة، ولا تليق بالحالة الوطنية كلها، وهي لا تنطبق على حركة مثل «فتح»، وأن الحركة ستعيد بناء نفسها ووحدتها من خلال تحمّل المسؤولية، وليس من خارجها، وأن «فتح» إن كانت تراهن فهي تراهن على نفسها أولاً وقبل أي مراهنة أخرى.
أرجوكم أن تلاحظوا معي أن الآراء الكثيرة المتباينة، والمتعارضة، وقد يصحّ القول، المتضاربة، أيضاً، تعتبر نفسها من صُلب «فتح»، ومن صميم إرثها وتاريخها، وهي شديدة الانتماء لهذه الحركة، وهي شديدة الحرص على دورها ومكانتها ومصيرها، وهي إذا كانت تختلف مع بعضها البعض فهي تفعل ذلك انطلاقاً من هذا الانتماء، ومن أجل المكانة والدور.
الحقيقة أن هذا إن دلّ على شيء جوهري فهو يدلّ على التمسك بالحركة، والإيمان بدورها والعمل على إحداث تغيير «ما» في هذا الدور.. والاستخلاص هنا هو أنّ مقاييس نجاح المؤتمر باتت تتمحور في القضايا الآتية:
أوّلاً، نقطة البداية والانطلاق في الحكم على المؤتمر هي فيما إذا كان انعقاده سيقلّص أو سيزيد من دائرة «الاحتجاج والتمرد والتذمّر» في الحركة.
فإذا انعقد المؤتمر دون ازدياد هذه الظواهر والمظاهر، أو أدّى انعقاده إلى تقليصها فإن هذا سيعتبر انتصاراً للحركة ونجاحاً كبيراً لها في ظل كل التشابكات والصعوبات التي تمرّ بها الحركة.
أما إذا تم انعقاد المؤتمر، بأيّ ثمن، وكانت النتيجة أن تتقوقع الحركة على نفسها، وأن تعيد دورها كله لبقاء الحالة الوطنية وإبقائها في دائرة المراوحة السياسية، ودائرة «التعايش» الاقتصادي، وتكريس السلطة كبديل حقيقي عن المنظمة من الزاوية العملية والواقعية فإن انعقاد المؤتمر بحدّ ذاته سيعتبر محطة خطرة على الحركة، والنتائج التي ستتمخض عن هذا المؤتمر ستكون مدمّرة على وحدة الحركة، وعلى دورها.
ثانياً، إذا لم يؤدّ انعقاد المؤتمر والنتائج التي سيخرج بها إلى إحداث تغيير نوعي جديد في دور السلطة، ولم يتم تحويل دورها إلى مجرد أداة سياسية، وذراعٍ مؤسساتية للإدارة الاجتماعية، وإحداث نقلات نوعية في صلاحياتها فإن الحركة في هذه الحالة تكون موضوعياً قد رضيت لنفسها وارتضت بأن تكون الحزب «الجديد» للسلطة التي تتعايش مع «الحل الاقتصادي»، وتراوح في نفس دائرة الرهان على حلولٍ سياسية مقلّصة إلى ما هو دون «الحكم الذاتي»، وإلى ما هو خارج الإطار الناظم للمشروع الوطني.
ثالثاً، إذا استطاع المؤتمر في حالة انعقاده أن يؤسس لإعادة بناء النظام السياسي على أُسس ديمقراطية، واستطاع بالتالي تكريس نظام ديمقراطي وتعددي، وحوّل هذا النظام إلى منظومات متكاملة لاستعادة الوحدة السياسية والاجتماعية، وأرسى نظاماً ملزماً من الناحية الوطنية للعلاقات الوطنية والشراكة الوطنية فإن الحركة من خلال مؤتمرها الثامن يمكن أن تجدد دورها القيادي، وأن تستعيد دورها ومكانتها التي تستحقها.
رابعاً وأخيراً، فإن مقياس نجاح مؤتمر «فتح» سيعتمد على إعادة الاعتبار للطابع الوطني التحرري للكفاح الوطني، وعلى إعادة الاعتبار لوحدة الشعب الفلسطيني، ووحدة هويته الوطنية، وتماسك روايته التاريخية، وعلى رفض التعايش مع الطابع العنصري، الاستيطاني، والاستعماري للمشروع الصهيوني بالتعاون المباشر واللصيق مع حركة التحرر العربية، ومع كل قوى التقدم الاجتماعي، وقوى الحرية والديمقراطية الحقيقية في هذا العالم على أساس من الشراكة الكفاحية.