سعت إسرائيل، من خلال التحقيق الذي أجراه جيشها لتقصّي وقائع مقتل الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، إلى طيّ هذا الملف من دون دفع أي ثمن، أو حدوث تدخل خارجي. وهي أصلاً شرعت بهذا التحقيق تحت ضغط مارسته الولايات المتحدة عليها، وسجلّها حافل بكثير من مثل هذه الحركات الاستعراضية التي تقوم بها بغية الهروب إلى الأمام من ضغوط كهذه، كما يُكشف النقاب مرّة تلو الأخرى.
لعلّ الجوهري الذي يقوله التحقيق الإسرائيلي أنّ ثمة احتمالاً كبيراً أن تكون أبو عاقلة قتلت بنيران جندي إسرائيلي إنما بطريق الخطأ. وفي ضوء ذلك، لا تنشأ في عرفها أي حاجة إلى فتح ملف ضد هذا الجندي، ويتم إغلاق قضية القتل إسرائيليًا من جميع النواحي.
ومن ضمن التعقيبات الصحافية الإسرائيلية التي توالت على هذا التحقيق العسكريّ، أشار تعقيب لمراسلة صحيفة هآرتس الإسرائيلية للشؤون الفلسطينية، عميره هس، إلى أنّه على غرار عملية قتل أبو عاقلة بدمٍ باردٍ من جنود جيش الاحتلال، سبق أن وقعت في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1967 عمليات قتل من الصعب حصرها، لكن اجتمعت فيها كلّ العناصر المطلوبة الكفيلة بعدم إثارة أي ضجة إعلامية حولها، ومن أبرز هذه العناصر أن ضحايا معظمهم من الفلسطينيين غير معروفين للرأي العام، بخلاف أبو عاقلة التي كانت بمثابة أيقونة إعلامية، ناهيك بأنّها تحمل الجنسية الأميركية.
ومن المُلاحظ أنّه على مدار الأشهر التي مرّت منذ جريمة قتل أبو عاقلة في مايو/ أيار 2022، وعلى الرغم من أنّ الحقائق المتراكمة في ما يتعلق بها تؤكّد لكلّ من في رأسه عينان، وعلى نحو جليّ للغاية، هوية القاتل، ما زالت ثمة حاجة في إسرائيل إلى جهد كبير من أجل قبول هذا الأمر على نطاق يتجاوز تعليقاً صحافياً هنا أو هناك في منابر هامشية أو في وسائل إعلام بديلة أو تقارير لمنظمات حقوق الإنسان. ولئن كانت هذه الإشارة تتوخّى قول شيء محدّد، فهو أنّ مثل الرعاية التي تحظى بها الممارسات العسكرية لدولة الاحتلال في الأراضي الفلسطينية ما كانت لتمرّ مرور الكرام لولا وجود رأي عام يؤيدها، ولولا تجنّد وسائل إعلام مركزية تتغاضى عنها على نحو شبه مطلق إلى درجة التواطؤ معها بالصمت لصرف الأنظار عنها.
وإذا شئنا أن نتركّز في الرأي العام الإسرائيلي، يضيق المجال لتعداد مجموعة الآليات الإسرائيلية التي جرى ويجري استخدامها لبرمجة ذاكرته انتقائيًا، وبالأساس/ في ما يتعلق بموقف الحركة الصهيونية وممارساتها إزاء الفلسطينيين، بغية أن تكون ذاكرة للتناسي، أو لتتذوّت ما جرى توصيفه ذات مرة بأنه "الكذب الإسرائيلي المتفق عليه"، والذي أصبحت له آليته. كما أصبحت لـ"القتل الخطأ المُتفّق عليه" آلية ليست معلنة، وخصوصا حين يحدث خلال شنّ هجمات على فلسطينيين.
وعلى ذكر الالتفاف من حول سياسة غير معلنة وتطبيقها، لا بُدّ من إعادة التذكير بأنه كانت للحركة الصهيونية ولإسرائيل صولات وجولات في الماضي بهذا الخصوص، توقف عند بعضها عالم الاجتماع الإسرائيلي، أوري بن إليعيزر، في أبحاثه، سيما في كتابه "عبر المهداف" الصادر عام 1995. ومما قاله بن إليعيزر، لدى عودته إلى النكبة الفلسطينية، إن أكثر ظاهرة اجتماعية إسرائيلية مثيرة للاهتمام، في ما يتعلق باحتلال فلسطين وطرد سكانها، حقيقة أن هذه السياسة لم يتم الإعلان عنها صراحةً ولم تُوثّق كتابيًا، ومع ذلك، كان الجميع يعرف كل شيء عن وجودها. ولم يقتصر الأمر على عدم عرض السياسة صراحةً فحسب، بل أيضًا استمر الزعيم الصهيوني ديفيد بن غوريون ورفاقه طوال شهور حرب 1948 في نشر خطاب سمته الاعتدال، وفي تقديم إسرائيل شعبا يسعى إلى تحقيق السلام مع العرب، وحتى التحالف معهم. وكانت هذه الفجوة بين الأقوال والأفعال جزءًا من السياسة التي نفذتها القيادة الإسرائيلية في ذلك الوقت؛ إطلاق كلامٍ معتدلٍ يهدف إلى تغطية سياسة مختلفة تماماً.