قبل البدء في استعراض الظروف الموضوعية القائمة اليوم في هذا العالم كما وظروفنا الذاتية، لا بد من التذكير بأن الانتفاضة الأولى الكبرى كعامل ذاتي التي اشتعلت دون قرار، لكن كنتيجة لتراكم العمل الكفاحي الفلسطيني بالخارج والداخل انذاك وبفعل مصداقية الحركة الوطنية وارتباطها بجماهير شعبنا زمن الاحتلال، كانت العامل الأساس في تحريك المسار السياسي وفتح آفاق التفاوض في مدريد ومن ثم في مفاوضات أوسلو رغم ما سُجل على تلك الاتفاقيات من ايجابيات وسلبيات في زمن الحصار السياسي الذي كان مفروضا على منظمة التحرير في ظل الأوضاع الناشئة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتداعيات حرب الخليج وتفسخ الموقف العربي وإلغاء القرار الأممي بمساواة الصهيونية بالعنصرية.
فتلك التجربة الثورية الغنية التي احرجت بل وعزلت اسرائيل امام العالم ما زالت ماثلة أمامنا حتى اليوم، لكن في ظروف مختلفة بالطبع، هي التي فتحت افقا سياسيا انذاك، رغم ان ما تبعها لم يحقق انهاء الاحتلال وتجسيد الدولة ذات السيادة على الأرض الفلسطينية المحتلة.
إن حركة الجماهير والتفافها حول القيادة السياسية في بيئة من الوحدة وتبادل الثقة وتجسيد المشاركة الشعبية الوطنية الواسعة من خلال الآليات الديمقراطية في صناعة القرار هو العامل الأساس للانتقال إلى مرحلة الفعل الفلسطيني لاستعادة المبادرة لخلق واقع جديد يفتح آفاق تحريك العملية السياسية نحو هدف إنهاء الاحتلال وتنفيذ حقنا بتقرير المصير والاستقلال الوطني بعيدا عن سراب الحلول التي يخدعنا بها الغرب لاطالة مبداء إدارة الازمة والصراع دون حلها، خاصة مع اقتراب مشاركة الاخ الرئيس ابو مازن باجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة وما ينتظر من استكمال حقنا بطلب اعتماد فلسطين كدولة كاملة العضوية أن كان هنالك أو في مجلس الأمن وإظهار فظائع الاحتلال اليومية التي شبهها الأخ الرئيس محقاً بجرائم الهولوكست ضد الشعوب الأوروبية في معقل الغرب الأوروبي الذي يتحمل المسوؤلية التاريخية عن تصدير المسألة اليهودية نحو فكرة استعمار فلسطين.
فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لم يشهد العالم أشكال من عدم الاستقرار والمتغيرات السريعة مثل تلك الجارية اليوم، رغم جرائم الحروب التي شنتها لاحقا الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة بالهند الصينية وما تركته من تداعيات داخل المجتمعات الأمريكية ، إضافة إلى تلك التي نفذتها بامريكيا اللاتينية وبعض دول القارة الأفريقية.
منذ ذلك الوقت والولايات المتحدة تحدد استراتيجياتها وتنظر إلى الأهمية الجيوسياسية لمنطقة اوراسيا التي قال عنها مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق بريجنسكي "أن من يسيطر عليها يسيطر على أوروبا ومن ثم على العالم".
لذلك فإن اولوية الولايات المتحدة بمؤسستها العسكرية وهي تلك التي ترسم الهوية الوطنية لبلادها تتركز الآن باعتقادي على استمرار خوض حربها التي تقوم بها بالوكالة ضد روسيا من أجل السيطرة على تلك المنطقة وتوسيع حلف الناتو فيها، رغم الأزمات الداخلية التي بدأت تعصف داخل حدود الولايات المتحدة وتهدد استقرارها.
ومن هنالك انسحبت أهمية السيطرة على ما سموه سياسيا "الشرق الأوسط"، ولذلك كانت فكرة إنشاء الكيان الاستعماري "إسرائيل"، منذ نهايات الحرب العالمية الثانية، وارتباطها بكل تلك العلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة والغرب وفق محددات وابعاد تلك العلاقة التي تحدثت عنها في مقال سابق لي، ومن أهمها البعد الديني بحسب تفسيراتهم المزعومة، وما له علاقة بصراعهم مع حضارة الشرق بهدف الاستمرار في الحفاظ على هيمنة النظام العالمي الأحادي القطب الذي تتهدده مظاهر السقوط والتغيير.
أن كل ما يجري اليوم من مشاهد للاحداث السياسية والامنية تندرج في خدمة تلك الاستراتيجة، وخاصة ما يدور الان من تداعيات تبعت تنفيذ مشروع الربيع العربي المشبوه لخدمة رؤيتهم للشرق الأوسط الجديد ، أن كان بسوريا، العراق، ليبيا واليمن في استمرار تدمير قدرات تلك الدول واثارة عدم الاستقرار فيها، إضافة إلى توتير تطور الأحداث في لبنان على أثر اقتراب أمر الفراغ الرئاسي وما يرافقه من ضغوطات على لبنان في موضوع ترسيم حدود المناطق الاقتصادية الخالصة مع إسرائيل بشرق المتوسط وتحديدا في حوض كاريش للغاز الطبيعي في اجواء من تهديدات حزب الله المتعلقة بحماية الحقوق اللبنانية وثبات موقف الدولة فيها حتى اللحظة.
ويترافق ذلك ما ما يدور الان بشكل عام بشرق المتوسط من تصاعد حدة الخلافات التركية اليونانية حول الحدود المائية والتنقيب عن الغاز في بحر ايجه وشمال مياه البحر المتوسط وما يرتبط بخلافاتهم حول الازمة القبرصية التي فشل المجتمع الدولي حتى الآن في فرض القرارات الدولية بخصوصها منذ الاحتلال التركي لشمال اراضيها، في وقت تتطور فيه العلاقات بين الطرفين كل على حدى مع اسرائيل بشكل متسارع حول قضايا الغاز والأمن والاقتصاد وبهدف ضمان دور اسرائيل في توريد الغاز عبر اي من اراضي تلك الدولتين الى اوروبا والتعاون العسكري معهم خاصة في ظل ازمة توريد الغاز الروسي الى اوروبا اليوم ولعب اسرائيل على التناقضات اعتمادا على ما لا نملكه نحن من قدرات.
في هذه الاثناء لا تبدو الولايات المتحدة منزعجة من تلك الخلافات بل بالاستفادة منها ايضا من اجل زيادة وتوسيع تواجد قواعدها العسكرية المنتشرة باراضي تلك الدولتين لخدمة رؤيتها المتعلقة في خلافاتها مع روسيا ولمحاولة حصارها من مناطق الجنوب والغرب وإثارة بؤر توتر جديدة بالمنطقة المحاذية هنالك كالنزاع الارمني الاذربجياني التي تساهم به اسرائيل أيضا.
ويأتي في هذا السياق موضوع الملف النووي الايراني الذي تسعى اسرائيل لمنع توقيع الاتفاق بخصوصه والابقاء على فزاعة إيران "كعدو فارسي" للعرب بدل مكانتها العدائية التي قامت من أجلها وما زالت تمارس جوهرها في محاولة التطهير العرقي لشعبنا الفلسطيني لتنفيذ مشروعها الكولنيالي المتكامل في كل ارض فلسطين الانتدابية التاريخية، دون الالتفات إلى أي من القرارات الدولية وأهمها القرار ١٨١ الأممي ونصوص القانون الدولي، التي بات الغرب غير مكترث لتنفيذ اي منهم في ظل أولويات أخرى، رغم ما يتصاعد اليوم من جرائم جديدة يومية ضد شعبنا أمام أعينهم، وتنفيذ التوسع الأستيطاني وابتكار أشكال جديدة له من خلال مشروع المزارع الاستيطانية وبناء وحدات جديدة حتى في حدود القدس، دون ان يكون للغرب موقف جريئ وجاد بمقابل تلك السياسات سوى باصدار بيانات قد تكون خجولة وتساوي بين الضحية والجلاد ، في غياب اي اجراءات عقابية أو حتى دبلوماسية بإمكان الغرب وتحديدا الاتحاد الأوروبي اتخاذها حتى لا يستمر اتهامهم باتباع ازدواجية المعايير والنفاق السياسي بمقابل مساعدات مالية يقدمونها لخزينة حكومتنا دون ان تؤدي إلى تنفيذ حقوقنا السياسية بالحرية والاستقلال الوطني.
وتستمر تلك المواقف اليوم في أصعب اوقات القارة الأوروبية منذ سبعة عقود على أثر توريطهم فيما يجري بالجانب الشرقي من القارة لخدمة الهيمنة الأمريكية المتهاوية اليوم، وما تشهده دول الاتحاد الأوروبي من مظاهرات ضخمة وتحرك شعوبها ضد الإجراءات العقابية بحق روسيا التي أصبحت ترتد على مجريات الحياة اليومية للشعوب الأوروبية خاصة مع اقتراب الشتاء وما له علاقة بالغاز وتداعيات هبوط اليورو والعلاقات الاقتصادية المتوقفة مع روسيا والعلاقات مع الصين على حد سواء، ما يؤدي الآن إلى تباينات بمواقف الدول الاوروبية التي لن تستطيع حماية الانهيار القادم للاتحاد الأوروبي برأيي.
ان دولة الأحتلال هي المستفيد الأساسي من مجريات تلك الأحداث وبروز أولويات أخرى كمِثل التي أشرت لها غير القضية الفلسطينية أمام المجتمع الدولي، وبروز بعض القيادات الأوروبية السياسية الجديدة من اليمين المحافظ كرئيسة وزراء بريطانيا التي تعتبر من اقرب المؤيدين لإسرائيل وسياساتها والتي قد أعلنت عن إمكانية نقل سفارة بلادها من تل أبيب إلى القدس أسوة بالقرار الأمريكي الذي لم يجرؤ الرئيس الأمريكي بايدن (الذي وصف نفسه بالصهيوني) على إلغائه ، بل وحتى دون ان يتمكن من ممارسة اي ضغط على حكومة الاحتلال ولو بتنفيذ اجراءات وتسهيلات هنا وهنالك رغم أنها لا تسمن ولا تغني عن ضرورة انهاء الاحتلال الذي يشكل جوهر عدم الاستقرار.
ومع التراجع بالمواقف العربية التي باتت تمارس الضغط علينا بمقابل حصولها على مساعدات أمريكية ووعودات بحماية انظمتها، رغم ما تم الإعلان عنه بالبيان الختامي بالرياض الشهر الماضي أمام بايدن الذي أكد على محورية القضية الفلسطينية، وهذا أمر جيد، لكن يجب أن يترجم عمليا بالعلاقة مع الولايات المتحدة ويُلجم دول التطبيع في تطوير علاقاتها مع دولة الاحتلال على حساب حقوق شعبنا وانهاء الاحتلال.
يجري كل ذلك اليوم بالعالم في اجواء نمو اليمين الصهيوني القومي والديني وتنافس اقطابه على مدى الاضرار بحقوق شعبنا واستباحة دمائه، وفي غياب اي عملية سياسية منذ توقفها بحكم عدم رغبة وتنكر الإسرائيلين للاتفاقات كما جرت العادة أوخداعهم المستمر بهدف تمرير مشاريعهم التي لا يكترثون فيها لنا، وبالتالي غياب وعدم توفر فرصة وجود أفق سياسي عن سبق الاصرار يفتح الأبواب لمفاوضات تفضي اولا لانهاء الاحتلال الاستيطاني، بحكم عدم قدرة احد من اللاعبين الدوليبن التاثير على دولة الاحتلال حتى اللحظة او في إطار تطور علاقات دبلوماسية لدول جديدة معهم التي لا نستفيد نحن منها شيئا . بل على عكس الأمر فإن الحركة الصهيونية العالمية ونظام حكومة اسرائيل الفاشية التي تعمل ضد كل من هو غير يهودي في إطار سياسات الابرتهايد والفوقية اليهودية ، هي من يؤثر على صناع القرار بالغرب وحتى داخل الإدارات الأمريكية المتعاقبة وفي محيط شرق المتوسط.
علينا لذلك أن لا ننتظر من احد اي تدخل إيجابي لإيجاد أفق سياسي ولاعادة تحريك اي عملية سلام حقيقي حتى اللحظة وفق القرارات الدولية بأقل تقدير، نظرا لعدم وجود ما يستفيدون هم منه في إطار فهم العلاقات الدولية بتبادل المصالح.
لذا علينا نحن قيادة وشعب في إطار الحركة الوطنية ومنظمة التحرير الاعتماد على ما نملكه نحن من مقومات وأوراق ضغط للوصول إلى ما يجعل هذا الاحتلال البشع مكلفا من النواحي المختلفة من خلال تصعيد المقاومة الشعبية واشكال العمل الجماهيري والدباوماسي المقاوم والاستمرار في فضح جرائم دولة الاحتلال وعزلها بالمحافل الدولية مع ايضاح صورة بشاعة الاحتلال وغياب وجود اي عملية سياسية التي اعتقد البعض بالعالم باستمرار وجودها، واعادة تموضعنا السياسي بعلاقتنا مع اصدقاؤنا ومع دول العالم على اهمية جميعها، والعمل مع كل الشعوب واحزابها التقدمية الصديقة لشعبنا في كل العالم مستفيدبن من بروز مظاهر ازمة مجتمع دولة الاحتلال والولايات المتحدة والتطورات الجارية بامريكيا اللاتينية بصعود القوى اليسارية فيها كذلك في عدد من الدول الاوروبية التي تعاني من ازمة اليمين السياسي وحتى داخل اوساط تقدمية بالولايات المتحدة ومنها يهودية وتوتر العلاقات الروسية الاسرائيلية والدور الصيني المساند، من أجل الضغط على حكوماتها الأوروبية لتلتزم بما وقعت علية من مواثيق دولية او حتى مع نصوص دساتيرها والنظام الاساس للاتحاد الاوروبي التي تتحدث عن مبادئ الحرية والعدالة ، وتحريك الرأي العام الدولي الذي أصبح اليوم ياخذ منحى معاداة العنصرية وسياسات الليبرالية المتوحشة التي تضر بمستقبله ومستقبل الأمن والسلم الدوليين، في حال أراد المجتمع الدولي حماية خياره هو حول حل الدولتين الذي أصبح قريبا من عِلم الغيب أن لم يكن قد أصبح منذ زمن.