بداية ومع احياء ذكرى ٤٠ عاماً على واحدة من ابشع المجازر "صبرا وشاتيلا" ضد شعبنا يوم امس التي شبهها كلها محقا الأخ الرئيس بالهولوكست، لا بد من العودة إلى تراكم مراحل مسيرة الكفاح الوطني الفلسطيني بداخل الوطن وفي مختلف ساحات الشتات تحديدا مع بدء انطلاقة ثورتنا المعاصرة حتى الانتفاضة الأولى الكبرى التي اشتعلت بفعل جماهيري ذاتي، وتطورت بفعل مصداقية الحركة الوطنية وارتباطها بجماهير شعبنا زمن الاحتلال ووضوح برنامجها انذاك، فكانت هي العامل الأساس في حصاد تراكم مسيرة الكفاح نحو نتائج سياسية وتحريك المسار السياسي وفتح آفاق التفاوض في مدريد ومن ثم في مفاوضات أوسلو قبل ٢٩ عاما وما تبعها من اتفاقيات لاحقة لم تكن هي الأمثل ، رغم انه لا يمكن لنا تقيم تجربة تاريخية ماضية في إطار ظروف الحاضر المتغير.

فقد أتت في وقت كان مؤتمر مدريد للسلام ما زال يعقد جلساته في زمن الحصار السياسي الذي كان مفروضا على منظمة التحرير في ظل الأوضاع الناشئة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتداعيات حرب الخليج وتفسخ الموقف العربي وإلغاء القرار الأممي بمساواة الصهيونية بالعنصرية، والذي لا نستطيع التنبؤ الآن بمخرجاته لو استمر حينها.

اتفاقيات لم تلتزم بها دولة الاحتلال حتى يومنا هذا عن سابق اصرار لأن حكامها ومجتمعها اليهودي الصهيوني لا يؤمنون حتى اللحظة  بضرورات السلام العادل والحقيقي لانهاء الصراع التاريخي.

إلا أن ما تحقق من تبعات اوسلو وكنتيجة لها من اقامة السلطة الوطنية لم يحقق انهاء الاحتلال وتجسيد الدولة ذات السيادة على الأرض الفلسطينية المحتلة حتى يومنا هذا، رغم النجاح النسبي في بناء مؤسسات الدولة العتيدة بالعديد من القطاعات الصحية، التعليمية، الاقتصادية وزيادة الحضور الدولي بالمحافل الأممية واتفاقياتها أو بالعلاقة مع دول العالم وغيرها من النجاحات، كما وعودة عدد لا بأس به من ابناء شعبنا ومقاتلين الثورة والقيادات من مختلف الاطياف الذين تشتت بهم الاوضاع في اصقاع العالم العربي إلى أرض الوطن ليصبح مركز القرار فيه.
 
بالنسبة لنا كانت المرحلة الانتقالية التي نص عليها الاتفاق هي افتراضا ترجمة لشعار إقامة السلطة الوطنية على اي شبر يتم تحريره الذي رفعته منظمة التحرير في إطار البرنامج المرحلي واعلان الاستقلال، وكان الأمل بأن تكون هي الممر كمرحلة نحو الوصول الى تجسيد حق تقرير المصير والدولة المستقلة بعد انتهاء الفترة الانتقالية. 

اما بالنسبة لدولة الاحتلال، فكانت اتفاقات أوسلو تهدف إلى إنهاء الانتفاضة الجماهيرية التي ازعجتها وقاربت في ان تحقق نتائج سياسية نحو فضح ولربما الى إنهاء الاحتلال، كذلك هدف الاحتلال الى تكريس مفهوم الحكم الذاتي بعيدا عن جوهر الدولة، والى تفسيخ وحدة الموقف الفلسطيني بين الداخل والخارج وحصارها لاحقا ، والهروب من النتائج التي كان من الممكن ان تترتب على الاستمرار في مؤتمر مدريد وبما له علاقة بتنفيذ القرارات الاممية ذات الصلة على قاعدة الأرض مقابل السلام.

وباختصار فإن ما وصلنا اليه اليوم من اوضاع هو ما كانت دولة الاحتلال تهدف له من خلال أوسلو وتلك الاتفاقيات التي تبعتها، من خلال سياسات مبرمجة ورؤية واضحة وبدعم وانحياز الولايات المتحدة الأمريكية الكامل لقرارات دولة الاحتلال سرا وعلناً لمنع تنفيذ الحقوق الوطنية السياسية لشعبنا وانهاء كل ما له علاقة بالأرث الكفاحي لمنظمة التحرير وعملهم على كي الوعي الوطني الفلسطيني باتجاه محاولاتهم المستمرة لترويض افكار جديدة تتلخص بتحسين الاوضاع من خلال التعايش مع الاحتلال دون انهائه والبحث عن حلول لقضايا حياتية هامشية هنا وهنالك تتعلق بجوانب اقتصادية غير ذات قيمة تنموية مستدامة ودون قاعدة انتاج تشغيلية، بل  إلى زيادة أنماط المجتمع الاستهلاكي والاعتماد على السوق الإسرائيلي والتشغيل في دولة الاستعمار ومستوطناتها، وسطو الاحتلال على المعابر الحدودية، لكي نبقى مستعمرة كولنيالية.

إن قواعد الاشتباك بين مفهومنا ومفهوهم كانت متناقضة في اطار صراع يومي شائك، وان الظروف منذ ذاك الوقت قد أصبحت اكثر تعقيدا بفعل تصاعد جرائم الاحتلال وزيادة الاستيطان وأعمال التهويد بالقدس والخليل والاغوار بشكل يومي لتتفيذ المشروع الصهيوني في أرض فلسطين التاريخية الانتدابية، وبفعل غياب مؤثرات ما يسمى بالمجتمع الدولي الذي هيمنت على قراره الولايات المتحدة طيلة العقود الثلاث الماضية واتباع الغرب لسياسات ازدواجية المعايير والنفاق السياسي وتمكين إسرائيل بالحصانة من اي عقاب، إضافة إلى ما يمارسه الاحتلال من حصار على السلطة الوطنية التي اقتصرت مخرجات اتفاقية أوسلو على حصارها في المربع الذي حدده لها الاحتلال، كما والعمل المستمر من جانب الاحتلال لاضعافها أن كان بالأمس أو اليوم، رغم محاولات عديدة خاضها شعبنا للخروج من حدود ذلك المربع دون ان يحالفها النجاح دائما كما حدث في تجربة الانتفاضة الثانية زمن الشهيد المؤسس ابو عمار لمحاولة خلق واقع جديد يتجاوز نصوص اوسلو وينهي الاحتلال كهدف لمرحلة التحرر الوطني التي ما زلنا نخوضها.

لكن الأمر لا يتعلق من وجهة نظري بالتسميات والمسميات ، وانما بجوهر الواقع المعاش ومن مدى اقترابنا من تحقيق اهدافنا بالحرية والاستقلال ومن تحديد مهامنا كحركة تحرر وطني تخوض صراع شرس مع احتلال كولنيالي بشع لم يتخلى يوما عن ما ورد تاريخيا في تراث الحركة الصهيونية وبرتوكولات حكماء صهيون وتفسيراتهم التوراتية المزعومة، التي ساندها الاستعمار منذ ما قبل وعد بلفور وما زال حتى اليوم بكل وقاحة سياسية تتناقض مع مبادئ الحرية والعدالة والديمقراطية للشعوب التي يتشدق بها الغرب نفاقا. 

لقد نجحت اسرائيل الى حد ما بإظهار نفسها منذ أوسلو بأنها تشارك في عملية سلام سياسية خدعت العالم بوجودها ورفعت خلالها عن نفسها العزلة الدولية حتى بات العالم يتعاطى معها كشريك في عملية سلام وبمساواة بين الضحية والجلاد، بل واصبح يُحملنا البعض منه مسوؤلية ما الت اليه الأوضاع من خلال اتهامنا باتخاذ إجراءات احادية، أو ربما لأننا نحن أيضا خاطبنا العالم وفق تلك الافتراضية من وجود مسار لعملية السلام، فرفعنا بذلك العزلة عن إسرائيل كدولة احتلال بالنتيجة منذ ذلك وحتى ما قبل سنوات عدة قبل اتخاذ المجلس المركزي قراراته.

لقد اَن الأوان أن لم يكن منذ زمن بأن نقف بوضوح مع أنفسنا لنقيم نقديا تلك التجربة من مراحل مسيرة كفاح شعبنا الوطني، وأن نراجع الأداء بجرأة ليس من باب جلد النفس، لكن من دواعي معرفة إلى أين نحن ذاهبون، ومن أجل الخروج من دائرة الدوران حول الذات احيانا أو مربع تكرار التجارب التي ثبت فشلها احيانا اخرى، والى البدء الجدي والتدريجي في تنفيذ قرارات المجلس المركزي للمنظمة لفتح أفق سياسي جديد. 

حيث تتصاعد اليوم أعمال المقاومة الشعبية بشكل يومي يقوم بها شبابنا تعبيرا عن رفضهم لاستمرار قهر الاحتلال وارهابه وكنتيجة لحالة الاحباط والغضب في أنٍ واحد نتيجة انغلاق الافق السياسي لانهاء الاحتلال، وهي تعكس فكر الاشتباك المبادر بديلا عن السكون والرضوخ للحالة القائمة، وهي أصبحت تاخذ  شكلا نوعيا جديدا تتكامل به مع أنماط أخرى من المقاومة الشعبية للاستيطان تكبد ضباط الاحتلال وقطعان مستوطنيه خسائر بالارواح وتفضح جرائمهم، وهي اليوم تحظى باحترام شعبنا بما تشكله من ترجمة لحق اقرته المواثيق الاممية في مقاومة اي احتلال. 

إن ذلك يجري الان في وقت يعبر فيه قادة أمن الاحتلال رغم تفاخرهم بقوة اجهزتهم عن قلق شديد من تطور أشكال تلك المقاومة ومن التحوّلات الإقليمية والداخلية القائمة والمتوقّعة، حيث إسرائيل مشغولة ايضا بموضوع احتمال العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، وقلقة جدّا من إسقاطاته، ويبدو أن هناك خلافات جدّية بين الأجهزة الأمنية الإسرائيلية حول الموضوع، إضافة إلى القلق وحالة الارباك من ما يجري على مستوى المتغيرات بتحالفات المنطقة والعالم.

لذلك فأن استمرار التعاطي في هذه الظروف الناشئة بردود افعال مع سياسات الغير بحقنا لن تجدي نفعا أن لم نتمكن من صياغة فعل جاد مبني على استراتيجية الاستفادة من هذا الارباك والقلق القائم باسرائيل ومن وضوح رؤية كان قد لخصها وقدمها الأخ الرئيس أبو مازن مرارا أمام المجتمع الدولي والمحافل الدولية خاصة مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، خاصة مع اقتراب مشاركته باجتماعها السنوي بعد ايام، وإيجاد الأدوات اللازمة والبرامج لتنفيذها وفق روح المبادرة وتكامل الاشكال والادوار التي يجب أن نتحلى بها خاصة مع هذه التطورات والمتغيرات الجارية بالعالم وعلى مستوى النظام الدولي على قاعدة الاستفادة منها مع افول الهيمنة الأمريكية والرباعية الدولية والازمات التي تعيشها المجتمعات بالولايات المتحدة وإسرائيل وتباين المواقف الأوروبية اليوم من القضايا الناشئة على أثر المحاولات الجارية ضد الشرق وتداعيات ازماتها، وبدايات تحرك للشعوب الأوروبية تجاه ما يجري.

بعد ٢٩عاما من اتفاقية أوسلو يتوجب علينا اليوم أيضا أن نعمل ذاتيا على إعادة تحديد ملامح وهوية ودور السلطة الوطنية دون حلها، باعتبارها استحقاق وطني، وتحديد مرجعياتها في إطار منظمة التحرير والتوافق الوطني الكفاحي بما يحقق فتح فصل جديد امام شعبنا قائم على الصمود المقاوم بعيدا عن كل ما جاء في تقيدات وتعقيدات أوسلو الذي يستخدمونه هم لتحقيق مصالح استدامة احتلالهم الاستيطاني واضطهادنا وقهرنا واستمرار اعمال القتل وفق معدل شهيد كل يومين كما هو الحال منذ بداية العام الحالي.

والعمل بما يحقق اساسا الحفاظ على شعبنا من الهلاك بل حمايته من جرائم ومخططات الاحزاب الصهيونية المتنافسة اليوم على مدى اراقة الدم الفلسطيني والاضرار بحقوقنا وتصفيتها في معاركها الانتخابية الجارية، كذلك العمل الفوري  ضمن ما تتيحه الظروف الموضوعية والذاتية الممكنة التي أشرت لها لإعادة تصويب المسار باتجاه اصول حركة تحرر تكافح من أجل إنهاء أطول احتلال بالعصر الحديث ضمن مفاهيم واليات  تضمن التفاف حركة الجماهير حول القيادة السياسية في بيئة من الوحدة وتبادل الثقة وتجسيد المشاركة الشعبية الوطنية الواسعة من خلال الآليات الديمقراطية في صناعة القرار، بما يشكل ذلك العامل الأساس للانتقال إلى مرحلة الفعل الفلسطيني لاستعادة المبادرة لخلق واقع جديد يفتح آفاق تحريك العملية السياسية من خلال أشكال مقاومة الاحتلال والاستيطان التوسعي على الارض وجعله مكلفا، كما ومن خلال أيضا الدبلوماسية المقاومة امام العالم وبعلاقاتنا مع الدول وفق مبداء تحقيق مصالحنا الوطنية في انهاء الأحتلال اولا بما فيها محاصرة وعزل دولة الأحتلال، والعمل على تجسيد بناء اقتصادي مقاوم واقعي واجتماعي واعي ومتكافل نحو هدف إنهاء الاحتلال وتنفيذ حقنا بتقرير المصير والاستقلال الوطني بعيدا عن سراب الحلول التي يخدعنا بها الغرب لاطالة مبداء إدارة الازمة والصراع دون حلها.