بعد أن تكشّفت حقيقة ما سماه الإعلام الغربي «التحول الاستراتيجي» في مسار الحرب الأوكرانية في ضوء استعادة القوات الأوكرانية السيطرة على مساحات «واسعة» من الأراضي التي كانت تسيطر عليها القوات الروسية، وبعد أن تراجعت «حدّة» الأحاديث عن هذه التحوّلات، وظهر للعيان أن هذه التحوّلات لم تكن سوى حاجة روسية عسكرية تمهيداً للمرحلة القادمة من الحرب، تراجعت الدوائر العسكرية الغربية عن تلك اللغة والمصطلحات، وعادت لتضع تلك «التحوّلات» في حجمها الحقيقي، بعيداً عن الهذيان الإعلامي الذي تمارسه القيادة الأوكرانية التي تعيش حالة غير مسبوقة في كامل العصر الحديث من الانفكاك التام عن الواقع.
الملاحظ من قبل كل مراقب موضوعي أن القوات الأوكرانية أصبحت في كل يوم تتعرّض لخسائر بشرية لم تعد قادرة على إخفائها، ولم يعد التستّر عليها سهلاً بأي حال، كما أن الخسائر المادية على مستوى مستودعات الأسلحة والمعدّات العسكرية تضاعفت بعشرات المرّات، وانكشفت القوات الأوكرانية في أراضٍ مفتوحة للضربات الجوّية المكثّفة للطيران الروسي، وأصبحت المروحيات الروسية تصطاد التجمعات الأوكرانية وتدمّرها تباعاً، في حين ضربت الصواريخ الروسية نقاطاً «حسّاسة» حسب المصادر الرسمية الروسية على هيئة تحذيرٍ خاص يُنذر باستخدام قوة تدميرية أكبر بكثير مما تم استخدامه على مدى كل الشهور الماضية للحرب، في خطوةٍ تشي ما سوف يُقدم عليه الروس في المراحل المتبقّية من هذه الحرب، خصوصاً أن الأمر يتعلق بالبنى التحتية.
القوات الأوكرانية في ضوء «التحوّلات» الأخيرة التي تبجّحت بها قيادتها ليس لها غطاء جوّي يحمي تقدمها في أيّ منطقة من مناطق القتال. والقوات الأوكرانية أصبحت بحاجة «ماسّة» إلى مثل هذا الغطاء، وهو غطاءٌ حتى لو توفّر لها من مخازن «حلف الناتو»، الذي تحذّر دوائر رسمية من أروقته بأن نفاد المخزون الاستراتيجي للحلف يقترب يوماً بعد يوم فإنه يحتاج إلى عدة شهور حسب رأي الخبراء، وهو غطاء سيساعد القوات الأوكرانية، لكنه في أحسن الأحوال سيقلّل من فعالية الضربات الجوية الروسية، ولن يغير جوهرياً في المعادلة، كما أنه عديم الفعالية في مواجهة الصواريخ الدقيقة الروسية، ما يعني أن القوات الأوكرانية ستقاتل بقية الخريف وأوائل الشتاء من دون هذا الغطاء ــ إذا توفّر ــ وأن قواتها ليس أمامها سوى الخروج إلى الأرض الموحلة، أو الاختباء حتى يأتيها بعض الفرج، ما يعني أن سير المعارك من الآن فصاعداً واستمرار النزيف البشري للقوات الأوكرانية بصورةٍ مروّعة، تُفقدها بالكامل ميزة التفوّق العددي، ويعود عليها فقط بالخسائر المتواصلة دون أن تكون «ملتحمة» مع قوات الجمهوريتين، أو القوات الروسية.
باختصار، فإن الخطة الروسية كما أرى هي إنهاك وتشتيت الجيش الأوكراني وإجباره على الانكشاف أمام الضربات الروسية إلى حين بناء الدفاعات الروسية حسب الخطة السياسية التي تمهّد لها.
من الناحية السياسية، وإذا ما تم الاستفتاء على «انضمام» كافة أراضي الجمهوريتين، وكافة المناطق المحيطة بها من قبل السكان الروس والناطقين بالروسية، ونجح الاستفتاء، وهو سينجح، لأن رغبتهم بالانضمام إلى روسيا كانت ستحدث على كل حال، سواء الآن أو حتى بعد توقّف المعارك هناك، فإن الخطط الدفاعية الروسية ستكون محكومة بجغرافيا هذا الانضمام بالذات، وستكون الأمور من وجهة النظر الروسية بعد ذلك مختلفة، لجهة أن أي اعتداء على الأراضي «الروسية» سيعتبر واحداً من أشدّ الخطوط الحمر خطراً في التأثير على مسار الحرب هناك.
في هذه الحالة، وبصرف النظر عن رأي الغرب في هذه الاستفتاءات، سنكون أمام منعطفٍ خطيرٍ وحاسم.
فإما أنه سيرغم على التخلّي عن أوهام زيلنسكي وحاشيته الفاسدة ويجلس إلى طاولة المفاوضات مع قيادات أوكرانية جديدة قادرة على تأمين الشروط الروسية، أو سيكون الغرب مُرغماً على الدخول في مواجهة مباشرة مع روسيا بكل ما ينطوي عليه الأمر من أهوال وأخطار كارثية لا حدود لها ولا إمكانية لتقدير تبعاتها.
إذا واصل الغرب تعنّته فإن عليه أن يواجه أسوأ شتاءٍ في تاريخه منذ أربعينيات القرن الماضي عندما كسرت روسيا سلسلة تقدم القوات الهتلرية، وألحقت بها هزيمةً انتهت بدخول القوات الروسية إلى برلين، وعلى هذا الغرب أن ينتظر أسوأ ما يمكن تصوّره من أزمات اقتصادية، وانفجارات اجتماعية ستؤدي إلى التفكك والتصدّعات الاستراتيجية في واقع التحالفات الغربية كلّها.
وحتى الولايات المتحدة التي اعتادت أن تستخدم أوروبا وتضعها الآن في فم الدبّ الروسي فلن تتمكن من الإفلات من هذه الأزمات.
الدخول المباشر في الحرب سيعني «التدمير» بصورة لا يحتملها العالم، والتدمير سيكون المسمار الأخير في نعش قيادة الغرب للعالم، لأن الغرب نفسه لن يعود غرباً متماسكاً أو قادراً على التماسك.
الشتاء سيكون أزمات لا تتحمّلها أوروبا في حين أن روسيا أعدّت نفسها لها، وهي تتابع خطواتها نحو أهدافها بصرف النظر عن أيّ تعثّر هنا، أو تعريج هناك، وبصرف النظر عن تقدم هنا وتأخّر هناك.
باختصار، أيضاً، ستضع روسيا الغرب في الأسابيع القادمة أمام اختبار القرن الجديد.
إمّا التسليم بحقوق روسيا الكاملة في إبعاد أيّ أخطار على وجودها القومي القائم على أمنها القومي أو أنّ الوجود القومي الغربي القائم على الأمن القومي الغربي سيكون على نفس الدرجة من التهديد.
والاستفتاء ليس سوى بداية الصدمة، والغرب يعرف ذلك حق المعرفة، ويدرك أبعاد الاستفتاء، ويفهم تبعاته، ويقدر ما يمكن أن ينطوي ويُفضي إليه.
الثرثرة الغربية حول أن هذه الحرب ستمتد إلى عشر سنوات قادمة هي ثرثرة فارغة، وكانت هذه الحرب ستنتهي بعد عدة أيام أو عدة أسابيع لو أن الغرب قدّر جيداً أبعادها منذ البداية، أو لو أنه لم يكن متورطاً في اندلاعها منذ البداية، ولم يبقِ ولا طريقاً إلّا وسلكها من أجل إذكاء نارها واستمرارها.
الغرب هو الذي أراد هذه الحرب من خلال الإصرار على تهديد الأمن القومي الروسي، والغرب هو الذي منع القيادة الأوكرانية من الحل السياسي الذي كان قريباً في الجلسات الأولى من المفاوضات، والغرب هو الذي عرّض أوكرانيا وشعبها لهذا الهوان والتشرّد، والغرب هو الذي «يضحّي» الآن بأرواح آلاف الجنود الأوكران، وهو الذي يتفرّج على الدمار الذي لحق بالشعب الأوكراني المغلوب على أمره ووضعه في هذا الجحيم، وهو نفسه ــ هذا الغرب ــ سيتخلّى عنه إذا أراد أن يُنقذ مصالح الغرب قبل فوات الأوان.
لا مناصَ من أن تنتهي هذه الحرب قبل الشتاء، ولن أستغربَ أبداً أن تشتعل أوروبا غضباً لفرض إنهائها قبل أن تحلّ الكارثة.
صحيح أن الرهان على «تعقّل» الغرب هو أقرب إلى المجازفة منه إلى التوقّع، إلّا أن الرادع الروسي بات مسنوداً بنصف العالم وبثلث اقتصاده، وبات مسنوداً بدول جديدة كبيرة ستدخل إلى «منظمة شنغهاي»، ولكنه بات مسنوداً بشعوبٍ أوروبية ليس لها مصلحة في استمرار هذه الحرب.