يريد رئيس حكومة الاحتلال أن يدخل إلى الانتخابات الإسرائيلية وهو يحمل راية مخضّبة بالدم الفلسطيني وفي ظنّه أن من شأن ذلك أن يجلب له المزيد من أصوات الناخبين الإسرائيليين بعد خطابه في الجمعية العامة، وحديثه بشكل مبهم، وغامض إلى أبعد الحدود عن دولة فلسطينية، وهو الإعلان الذي تحول بعد عدة دقائق فقط إلى هدف لهجوم كاسح من قبل حزب "الليكود" ورئيسه نتنياهو، ومن باقي مركبات اليمين الاستيطاني الفاشي، وحتى من بعض أطراف اليمين المتحالف معه، وصولاً إلى انتقادات وزير الحرب غانتس المحسوب على "يمين الوسط" في إسرائيل.
الدم الفلسطيني في جنين كان وما زال، وسيظل مادة اللعبة السياسية الداخلية، وهو ككل دم في المدن الأخرى، وهو استمرار لنهج المشروع الصهيوني الذي يمعن في هذا الدم في القدس ونابلس والخليل، وهو استمرار للدم الذي أُريق في غزة، والانتخابات الإسرائيلية ليست سوى "المناسبة والموسم"، لأن الفتك بالفلسطينيين هو عنوان النهج الذي تمارسه حكومات الاحتلال، والانتخابات ما هي سوى "فرصة" أخرى لهذه الحكومات من أجل ممارسة الإجرام الذي لم ينقطع ولا للحظة واحدة، قلنا في مقالات سابقة إن عنوان المرحلة الجديدة هو الفتك بالشعب الفلسطيني، وإن من يعتقد أن لدى إسرائيل غير القتل والفتك والإجرام في "لعبة" الدم الفلسطيني لم يعد لديه ما يقوله لنا، ولم نعد بحاجة إلى المزيد من مثل هذه الاعتقادات!
إسرائيل تضع الشعب الفلسطيني أمام خيار واحد ووحيد، وهو إما القبول بـ "الحل الاقتصادي" مقابل الهدوء التام، على أمل أن يسمح للقيادات الفلسطينية بإدارة شؤون السكان الفلسطينيين في منعزلات سكانية، وتوسيع صلاحيات هذه الإدارة مع "تكريس" الهدوء التام، وصولاً إلى أعلى مستوى ممكن من دون الوصول أبداً ومطلقاً إلى مفهوم الدولة المستقلة، أو "تحمّل" تبعات أي شكل من أشكال المقاومة، حتى ولو كانت سلمية، أو "دبلوماسية"، أو مجرد تظاهرات عادية، ويمنع الفلسطيني بموجب ذلك من مقاومة الاستيطان أو سرقة الأرض، ولا يحق له حتى الاحتجاج السلمي على هدم البيوت التي يضطر لهدمها بنفسه لكي لا تجبره سلطات الاحتلال على دفع "ثمن" هدمها بالجرّافات الإسرائيلية.
لابيد نفسه قدم لنا نموذجاً من الهدوء المطلوب، وهو النموذج الذي تقدمه له حركة حماس في القطاع، حيث أكد أن هذا "النموذج" هو المطلوب في الضفة، أما غير ذلك، أو بالتعارض مع ذلك، أو رفض ذلك و"التمرد" عليه، فالحل الذي ينادي به هو القتل والفتك كما حصل في القطاع مع حركة "الجهاد الإسلامي"، وكما يجري الآن مع كوادر حركة "فتح" في الضفة.
دعونا من الكلام الذي لا يقدّم ولا يؤخّر، ولا يفعل ولا يؤثّر حول "وحدة" المقاومين، ووحدة الصفوف، ووحدة "الغرف المشتركة"، وغير "المشتركة"، الحقيقة البعيدة كل البعد عن الواقع الذي نعيشه مفادها واضح وصريح ولا يحتاج إلى أي بلاغة لغوية أو أدبية، ولا يغير من هذه الحقيقة كل دواوين الحماسة العربية.
فكما نحن منقسمون على المستوى السياسي، ومختلفون على كل شيء، فنحن منقسمون، أيضاً، على مواجهة الاحتلال، وعلى وسائل هذه المواجهة، وعلى تنظيم هذه المواجهة، وعلى تخطيط هذه المواجهة، وعلى أهداف هذه المواجهة، تماماً كما أننا منقسمون على تحمّل أعبائها.
وإذا أردنا الوقوف والتوقف أمام الحقائق الدامغة على هذا الصعيد، فإن إسرائيل قد عقدت صفقة متكاملة مع "حماس" بوقف كل الأعمال العدائية من جانب "القطاع"، مقابل تسهيلات اقتصادية مؤقتة، ستتطور وستتعمق بقدر ما سيتطور التنسيق ويتعمق الهدوء "أملاً" في أن تتحوّل هذه الصفقة، من صفقة "مؤقتة" إلى اتفاق دائم.
وإذا أردنا أن نقف أمام الحقائق الدامغة فيما يخص "مقاومة" الضفة فإن هذه المقاومة في جنين ونابلس والخليل والقدس مستفردٌ بها، وما زالت الحركة الشعبية دون مستوى "المؤازرة" لهذه المقاومة، وما زال الحراك الشعبي الذي يحميها انفعالياً، وأبعد ما يكون عن أن يؤدي إلى الدفاع عنها، أو تقديم يد العون الحقيقية لها.
وكما أننا نقول القصائد الشعرية احتفاءً وتبجيلاً بفعل البطولة في هذه المقاومة فإننا لا نفعل شيئاً يعتد به من أجل الاتفاق على استنهاض الحالة الوطنية، وتحولت حالة الاستنهاض وكأنها حالة الانفعال التي تنجم عن هذه البطولة.
هناك في القطاع يتم "إلهاء" الناس بـ"التحرير السريع" القادم، وتشكل المجالس البلدية لاستلام مهامها دونما إبطاء، بعد تحرير المدن والبلدات الفلسطينية، ووصلت الأمور ببعض المهووسين بهذا "التحرير السريع" أن يتحدث عن بدء بعض الناس ببيع ممتلكاتهم، لأن العودة أصبحت وشيكة والتحرير ليس سوى مسألة أسابيع أو شهور على أبعد الحدود!
فما هي قيمة الوحدة وإنهاء الانقسام والمصالحة، وغيرها.. وغيرها إذا كان "التحرير" قد أصبح على الأبواب؟!
وما الضير في التنسيق على الهدوء التام مقابل التسهيلات الاقتصادية طالما أن إسرائيل نفسها هي مسألة وقت يتراوح بين الأسابيع والشهور؟!
وفي المقابل فإن بعضنا الآخر هنا في الضفة لا يفعل شيئاً سوى "الاحتجاج" و"الاعتراض" و"التعارض" مع كل شيء دون التفكير، مجرد التفكير في أعباء وكلفة الاعتراض، ودون أن يقدم في مسار هذا الاعتراض سوى الاعتراض نفسه.
وهنا في الضفة كل شيء يبدو حالة "انتظار"، انتظار عمّا سيسفر عنه فعل ما، وأحداث ما ومستجدات ما، وتوقعات ما وتطورات ما، كلها مبنية للمجهول، والمعلوم الوحيد فيها هو الانتظار نفسه.
ليت الأمور تقف عند هذا الحد، لأن الناس لا تعرف ــ حتى ولو اعتقدت أنها تعرف ــ ما الذي ننتظره على وجه التحديد.
هل تنتظر ــ على سبيل المثال ــ تطورات سياسية دولية أو إقليمية من شأنها "تحريك" عملية السلام؟!
أم هي تنتظر أحداثاً سياسية داخلية من شأنها "تحريك" حالة الانفصال والانقسام باتجاه الوحدة وإنهاء هذه الحالة المزرية؟!
هل تنتظر شيئاً ما حول العلاقة مع إسرائيل، وحول قرارات المجلسين الوطني والمركزي أم نحو تفاهمات جديدة، مع الحكومة الإسرائيلية "الجديد" حول "حل اقتصادي" جديد أم ماذا؟
انتظار هنا، وهدوء هناك، وفي هذه الأثناء تستمر إسرائيل في استباحة الدم الفلسطيني، وتستمر استراتيجية الفتك بالشعب الفلسطيني، ولا شيء سوى الفتك والقتل والإجرام.
وبين فعل البطولة النادرة، والهدوء التام ــ "ما قبل التحرير بهنيهة" ــ والانتظار القاتل لشيء ما، ربما يحدث، وربما لا يحدث أبداً، فإن إسرائيل لديها الكثير مما تفعله، ولديها المزيد في كل يوم جديد.