نقلت أحداث الأسبوع الماضي الوضع الفلسطيني الداخلي إلى مرحلة وشكل جديد من نظام القيادة؛ أي علاقات السيطرة والقوة الحاكمة في الشارع الفلسطيني، والقدرة على قيادته لناحية أَسرِ أفئدة المواطنين والتحكم في سلوكهم اليومي وعلاقتهم بالقضايا اليومية والسياسية؛ التحولات في علاقات القوة والتحكم التي تُرسم اليوم والتي يجب أنْ ترصد لفهم واستشرف مسار المستقبل على المدى القريب أو المتوسط تتمثل؛ أولاً: بمدى التزام المواطنين بالإضراب الذي أعلنته مجموعة عرين الأسود في مدينة نابلس للمرة الأولى دون أنْ يكون الاعلان صادر من القوى الوطنية والإسلامية، ودون استخدام أشكال قوة الفرض المادي. الأمر الذي يشير إلى تحول هام في سلوك المواطنين ينبغي رصده كتغيير في القيادة الميدانية التي تقرر سلوك المواطنين وحركة تجارتهم وعملهم في مناطق متعددة في الضفة الغربية.
وثانياً: بإصدار هذه المجموعة الأوامر الشعبية لكيفية التصدي لاقتحامات قوات الاحتلال الإسرائيلي للمدنية وخلق تحدٍ له. وثالثاً: بالإعلان عن فتح معركة مع الاحتلال ومستوطنيه بقيامهم بعمليات عسكرية "إطلاق النار" تستهدف مواقع لجيش الاحتلال وتحركات مستوطنيه بالقرب من مدينة نابلس. ورابعاً: باستمرار المقاومة المسلحة لاقتحامات الاحتلال في مدينة جنين ومخيم جنين. أما خامساً: فإنَّ شكل العلاقة بين هذه المجموعات العابرة للحزبية تمويلاً ومقاتلين يظهر تحول جوهري في طبيعة المقاتلين الذي يكمن هاجسهم الرئيسي بتغليب النضال الوطني على النزعة الفئوية التي تعتري حالة الفصائل الفلسطينية.
فيما سادساً: ترسم حالة التكاتف بين أسر الشهداء، وبخاصة تجمع أمهات الشهداء، تعاظم التعاطف والمكانة للشهداء والشهادة خاصة لدى الشباب الفلسطيني الغاضب من رؤية الاحتلال وعربدة مستوطنيه. وسابعاً: حالة التمجيد الشعبي بالشهداء والمطاردين، الذين يتغنون بتصديهم للاحتلال حتى في أثناء الاحتفال بالأعياد الدينية، ورسوخ صور ذهنية لهم في عقول الشباب الفلسطيني. الأمر الذي يعيد للأذهان صورة الفدائي الفلسطيني "الرمز" المضحي بحياته وتعاظم تقليده بالقيام بعمليات مسلحة من قبل الأفراد أو المجموعات في المناطق الأخرى من أجل الوطن ومن أجل الحياة بكرامة.
وثامنا: عودة الحالة الوطنية أو التمجيد الوطني من خلال كتابات الشباب على وسائل التواصل الاجتماعي وفي اللقاءات الجماعية والأحاديث الفردية بين المواطنين خاصة بين جيل الشباب، وعودة إعلاء صوت الأغاني الوطنية في الشارع الفلسطيني على المستوى الفردي والجماعي ما يثير الإحساس الجمعي بالحالة الوطنية وينميها.
هذه المعطيات أو التحولات ليست بمعزل عن الظرف الموضوعي القائم اليوم من فقدان الأمل بإنهاء الاحتلال في المستقبل القريب، واستمرار الاحتلال بسلسلة جرائمه ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتهويد مدينة القدس وبالاعتداء على المقدسات الإسلامية والمسيحية، واستسهال إراقة الدم الفلسطيني لحسابات انتخابية إسرائيلية داخلية للحصول على أصوات اليمين واليمين المتطرف في المجتمع الإسرائيلي.
ناهيك عن حالة احباط عام لدى الشارع الفلسطيني بنظرته للسلطة الفلسطينية، وفقاً لرأي الجمهور الفلسطيني، بالاعتقاد أنَّها أصبحت عبءً على الشعب الفلسطيني، وانخفاض التقييم الإيجابي للإدارة العامة الفلسطينية، والاعتقاد بوجود فساد في مؤسسات السلطة الفلسطينية مرتفع، وتراجع أحوال الديمقراطية وحقوق الإنسان، وضعف قدرة الحكومة الفلسطينية على تحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، وعلى تحسين الأوضاع الاقتصادية. يترافق ذلك مع احباط واسع لدى المواطنين الفلسطينيين من الخيارات السياسية المطروحة؛ فحوالي ثلثي المواطنين في الضفة يعارضون خيار حل الدولتين، ويرون أنَّ حل الدولتين لم يعد ممكنا بسبب التوسع الاستيطاني، وأنَّ فرص قيام دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل ضئيلة وضئيلة جداً في الأعوام الخمسة القادمة.
في المقابل ارتفع التأييد للمقاومة المسلحة حيث زادت نسبة الذين يتوقعون انتشار أعمال المقاومة المسلحة في الضفة الغربية، ويعتبرون أنَّها الطريقة الأفضل لتحقيق الأهداف الفلسطينية المتمثلة بإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية، وزدت نسبة المؤيدين للجوء للانتفاضة المسلحة بديلا عن الوضع الراهن، وللعمليات الفردية ضد المدنيين الإسرائيليين داخل إسرائيل باعتبار أنَّها تساهم في خدمة المصلحة الفلسطينية.
إنَّ فهم التحولات على قيادة الشارع في الحيز المكاني لا يكتمل دون دراسة معمقة لتحولاتها في الفضاء الشعبي بمكوناته المختلفة، وتأثيرها على البني الثقافية والاجتماعية للجماهير الفلسطينية وبشكل خاص في الضفة الغربية، ومدلولاتها المتعلقة بمعنى الكرامة الوطنية لهم في ظل الفضاء الرقمي المفتوح وبالأخص لمعانيها لدى الشباب الفلسطيني. الأمر الذي يتطلب قراءة أكثر عمقاً باعتبار أنَّ هذا المقال فاتحة نقاش، ولا يدعي كاتب المقال أنَّه أحكم الوصف للتحولات أو توصل لاستنتاجات ختامية فاصلة أو محددة للتوجهات المستقبلية؛ خاصة أنَّ العوامل الدافعة المتوفرة غير مكتملة وفي الوقت ذات فإنَّ العوامل الكابحة قد تمنع أو تحدث تغييراً أو تحييداً لهذا المسار أو ذاك.