رغم أنها تمتلك عشرات الرؤوس النووية، وآلاف الطائرات الحربية والمصفحات، وجيشاً يعتبر واحداً من أقوى جيوش الشرق الأوسط، إلا أن إسرائيل لا تخيف في حقيقة الأمر ولا يقيم لها وزناً إلا من تجرد من الأخلاق الإنسانية، وهي ضعيفة جداً، لكونها دولة احتلال، وحتى في منتهى الضعف لأنها تمارس التمييز العنصري، وتسير بخطى متواصلة نحو أن تكون دولة دينية متطرفة، وهي بعد أن خاضت عدة حروب ضد أنظمة عربية مستبدة ومتهاوية، وجدت نفسها في مواجهة شعب مكافح منذ أكثر من خمسين سنة، فرض عليها الانكفاء، أقله عن احتلال أراض عربية أخرى، وما زال يكافح لمنعها من «ابتلاع أو هضم اللقمة الاحتلالية الدسمة التي ابتلعتها عام 1967، وما زالت إن لم تكن شوكة في حلقها، فإنها ظلت قاسية عصية على الهضم.
وإسرائيل يمكن وصفها من الناحية العسكرية كنمر من ورق، حين تواجه الشعوب، بعد أن كانت نمراً في مواجهة الأنظمة العربية عامي 1948، 1967، وآخر فصول المواجهة ما يحدث حالياً في مدن الضفة الغربية، خاصة شمالها، فالعملية التي أطلقتها إسرائيل وأسمتها عملية «كاسر الأمواج» في آخر آذار الماضي، ما زالت مستمرة، وقد عجزت إسرائيل عما تقول عنه، إعادة فرض الهدوء على مدن جنين ونابلس، رغم أنها زجت أولاً بعشر كتائب عسكرية إضافية، لما هو موجود في الضفة أصلاً من جنود وشرطة ومستعربين وحتى مستوطنين، ثم ها هو بيني غانتس وزير جيشها يعترف بأن نصف الجيش الإسرائيلي يحارب في الضفة أفراداً وعناصر مسلحين ببنادق معظمها صنع محلي، أي بدائي، ولا يقارن بآلة الحرب الإسرائيلية المتطورة.
وإذا كان حال إسرائيل هذا، فماذا سيكون حالها لو واجهت في وقت واحد خمس جبهات معاً، وصفتها بهذا هي بالتحديد، وسمتها تباعاً: إيران، سورية، حزب الله، حماس/غزة، والضفة الغربية، وإذا كانت إسرائيل تدفع بنصف جيشها إلى الضفة الغربية اليوم، ولا تنتصر، على الأقل بسرعة، فكم ضعفاً لجيشها ستحتاج حتى لا تنهزم في مواجهة كل تلك الجبهات المشار إليها معاً؟ الجواب يعني شيئاً واحداً، وهو أن إسرائيل ضعيفة والسبب كما أشرنا، هو احتلالها الذي يصعب الدفاع عنه لأنه باطل، ومصيره كما حدث مع كل الاحتلالات في الدنيا من قبل، ورغم كل الدعم المادي والمعنوي، أو العسكري والمالي والسياسي الذي تتلقاه إسرائيل من الغرب وخاصة أميركا، إلا أنها ستخرج من أرض دولة فلسطين، طال الزمان أو قصر، فالحديث لا يدور عن تنازع حدودي ولا عن أرض خالية من السكان، بل عن أرض محتلة فيها شعب حر، من الطبيعي جداً أن يقاوم، تماماً كما قاوم من قبل الشعب الجزائري، وكما قاوم الشعب الفرنسي الاحتلال النازي، وكما قاومت شعوب شرق أوروبا الاحتلال الألماني، وكما قاومت فيتنام الاحتلال الأميركي، وكما قاوم الأفغان الاحتلال السوفياتي، وكما قاومت الصين الاحتلالين البريطاني والياباني، وكما قاومت شعوب أفريقيا احتلالات الدول الأوروبية، والقائمة تطول في الحقيقة.
كما أشرنا في مقالنا السابق هنا، فإن المواجهة التي تحدث في الضفة الفلسطينية المحتلة منذ مطلع هذا العام، هي الانتفاضة الثالثة، فهي جاءت بعد هبات متتالية، وبعد مواجهات متواصلة استمرت خلال السنوات الماضية، وهي مختلفة عن الانتفاضتين السابقتين، وهذا طبيعي، فالانتفاضة الثالثة تتوج تجربة كفاح وطني طويلة، وتختزن في الذاكرة والتجربة ما جربه الشعب الفلسطيني في انتفاضتيه السابقتين وقبلهما عبر كفاحه المسلح، ورغم أن أساليب واجتراحات الانتفاضة الثالثة ما زالت في بداياتها، إلا أن جعبة المقاومين بدأت تسجل الحكايا والقصص التي تظهر المدى البعيد من قدرة الشعب على إبداع الوسائل والطرق في المقاومة والكفاح الوطني، وقد أبدع شبعنا وشبابنا في التغلب على واقع الانقسام الداخلي من خلال مجموعة «عرين الأسد» التي تضم المقاومين من كل التنظيمات والفصائل، في جبهة نابلس، وقد ظهرت كرأس حربة في مقارعة الاحتلال، الذي بدأ بشن حملته الإعلامية والسياسية عليها، بعد فشله في اقتحام عرينها أو معقلها عسكرياً.
كذلك سجلت شعفاط وأبدعت في التصدي للحصار، حين اندفعت جحافل جيش العدو تبحث عن فتى مقاوم لم يتجاوز الثانية والعشرين من عمره، والذي لا ينتمي لأي فصيل، ومن تلك القصص ما قيل من أن إسرائيل وفي خضم بحثها عن «مطلوب» عُرف بأنه حليق الرأس، سارع العشرات من شباب شعفاط إلى حلق رؤوسهم، حتى يُفشلوا المسعى الأمني الإسرائيلي بالوصول للشاب المطلوب لأمنها. أما جنود وضباط العدو فهم بدؤوا بالحديث عما يواجهونه عند اقتحامهم المدن الفلسطينية، خاصة جنين ونابلس، حيث يتصدى لهم الجميع، من شيوخ ونساء وأطفال، إضافة للشباب بالطبع، وقد قال أحد ضباط العدو، بأنهم حين يرون رجلاً وقد تعدى الأربعين من عمره، يظنون لأول وهلة بأنه لن يلقي عليهم الحجارة، فيتفاجؤون بأنه حين لا يجد الحجر يفتح باب سيارته ويلقي عليهم بـ «كرتونة الحليب».  
ثم ما أن يتقربوا من بوابات المخيم أو المدينة حتى يقابلوا بوابل من الرصاص والحجارة، وحتى القنابل محلية الصنع، بما يعني بأن جيش الاحتلال هو اليوم عالق في الضفة الغربية، ولم يعد حلمه بما يقول عنه غانتس بإعادة الهدوء، أمراً قريب المنال، أي أن الشعب الفلسطيني قد صبر، وها هو يصعد بثورته بالتدريج، والأمر ليس ردة فعل مفاجئة على حدث عابر، ولا بسبب ضيق العيش أو التنكيل الذي تزايد خلال الفترة الأخيرة، بل هو جاء بعد تراكم مظاهر القهر الاحتلالي، والمقاومة في حقيقة الأمر لم تبدأ بما هي عليه الآن ولن تنتهي كما هي الآن، فهي أولاً تتصاعد من حيث تزداد قوتها العسكرية، فلم يعد التصدي بالحجر والسكين، ولا حتى بمسدس أو بندقية بشكل نادر أو محدود، بل بشكل أكبر، وصار استخدام النار أكثر ولم يعد يقتصر على البنادق، بل شمل أيضاً القنابل وإن كانت محلية الصنع.
ثم اتسع نطاق المقاومة، ولم يعد الحديث يقتصر على جنين ونابلس، بل ها هو يشمل القدس والخليل، والأهم أن الانتفاضة الثالثة، قد جمعت بين أساليب الانتفاضتين السابقتين، فهي شعبية، أي يتصدى كل المواطنين لجيش الاحتلال، عند اقتحام جنين ونابلس، بل إن قرى جنين تهب للتصدي عند اقتحام مخيمها، وهي مسلحة، ولكن لا يقتصر ذلك على جنود وعناصر شرطة السلطة، كما حدث عام 2000، بل إن الأمر يشمل المجموعات العسكرية سواء منها التي تنتمي لـ «الجهاد» كما هو الحال في جنين، أو إلى الوحدة الميدانية لكل الفصائل كما هو حال عرين الأسود في نابلس، ويشمل أيضاً الأفراد الذين يمارسون المقاومة من تلقاء أنفسهم، كما هو حال عدي التميمي.