أثار بعض الصحفيين والمهتمين بالشأن الفلسطيني وبتطورات "ظاهرة مجموعة عرين الأسود" في مدينة نابلس مسألتين؛ الأولى: بمدى القبول المجتمعي لها وتضامنه معها وما خلقته من رمزية لدى المجتمع الفلسطيني، والثانية: بمدى ديمومتها كظاهرة، وهما سؤالين شرعيين لفهم الظواهر الاجتماعية والسلوك الشعبي وفي السياسة وأخواتها.

في ظني أن القبول المجتمعي لظاهرة عرين الأسود في مدينة نابلس برمزية عابرة للجغرافيا الفلسطينية وتأييد شعبي لها يعود إلى أمرين؛ الأول: استعادة التمثلات الشعبية لمفهوم التضحية المتجسدة في صورة الفدائي الفلسطيني والذي هدفه التضحية بالنفس من أجل الحرية والكرامة الوطنية ونيل الاستقلال، والثاني: مفهوم المقاومة أي الفعل المبادر لمواجهة الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي القائم على طوال المئة عام الماضية، الأمر الذي مكنها من الحوز على القبول الشعبي وبناء سلطتها الرمزية في الحيز الجغرافي الضيق "مدينة نابلس وقراها ومخيماتها"، أو أسرها لقلوب المجتمع وافئدته بالاستجابة لطلباتها وبياناتها والتغني بها في الحيز الأوسع في الضفة الغربية وقطاع غزة.

إنَّ استمرار هذه الظاهرة أو توقفها يعتمد على عوامل متعددة منها؛ عوامل دافعة للديمومة تعتمد بالأساس على القدرات البشرية والمادية المتوفرة لها، وعلى قدرتها على الاستمرار بالحوز على التضامن والتأييد الشعبي، وعلى استمرار سلوكها بعدم الانغماس في الصراعات الداخلية وبقائها حاضنة وطنية للمقاومين، وعدم تكرار تجارب المجموعات الفلسطينية المسلحة سواء في الثلاثينات من القرن الماضي أو الانتفاضة الأولى بالتحول إلى مصلح اجتماعي أو محاكم للنظر في العلاقات الاجتماعية والمشاكل الشخصية أو في فرض هيمنها المادية على السكان للحصول على مقدراتهم أو العبث في أرزاقهم أو الميل إلى صالح فئات اجتماعية على حساب الأخرى.

في المقابل فإن هناك العديد من العوامل الكابحة لنمو هذه الظاهرة وتحولها من سلطة رمزية إلى سلطة مادية تفرض بالقوة شكل السلوك الفلسطيني في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي أو مؤسسات الحاكم منها؛ ما يتعلق بالاحتلال وقسوة إجراءاته التي يستخدمها لإخماد جذوة هذه الظاهرة سواء بعمليات القتل أو العقوبات الجماعية التي تفرضها على السكان وهي ظاهرة للعيان دون الاطناب بذكرها، والعامل الثاني يتعلق بالمنظومة السلطوية المهيمنة مادياً على المجتمع مثل مؤسسات الحكم، أو المهيمنة رمزياً على المجتمع مثل الفصائل الفلسطينية المختلفة وقوى رأس المال الاجتماعي، باستخدامها وسائل ترغيب وتهديد متعددة لكبح جماح هذه الظاهرة أو توسعها للمناطق الأخرى. كما تشكل ظاهرة مجموعة عرين الأسود تحدياً للقوى السياسية والاجتماعية المهيمنة في المجتمع الفلسطيني؛ خاصة أنَّها تُحدث تحولات في التمثلات الشعبية لهذه القوى وفي مكانتها المادية والرمزية؛ أي الشرعية في الحكم، وفي القبول العام بها، وفي الخضوع لها، وفي ممارسة سلطتها المادية والرمزية. الأمر الذي يجعل هذا التحدي جوهرياً أو مركزياً وأساسياً في القدرة على النفاذ المادي لحكم السلوك الاجتماعي والسياسي للمجتمع الفلسطيني وهو أمر حَيَويّ وَجَدِيّ في فهم التحولات المجتمعية.  

والعامل الثالث هو ذاتي خاص بمجموعة عرين الأسود، حيث اقتصرت هذه الظاهرة على ذات البقعة الجغرافية، ومحدودية الأعداد المنخرطة بها، وعدم انخراط واسع في المقاومة المسلحة من مراكز السلطة المادية المهيمنة في المجتمع الفلسطيني.

في ظني أنَّ الإجابة على المسألة الثانية غير مضمون العواقب؛ أو بالأحرى غير مرغوب به من قبل شرائح مجتمعية تتطلع للتغيير أو إحداث التغيير في السلوك السياسي، إلا أنَّ المسألة هنا تتعلق بفهم القدرات ومدى التحديات القائمة أمام الظواهر الاجتماعية بفحص العوامل الدافعة والعوامل الكابحة لديمومتها وكذلك فحص الوقائع المادية القائمة. فعلى الرغم مما أحدثته هذه "الظاهرة" من تمثلات شعبية؛ باستعادة صورة الفدائي الفلسطيني والفعل المقاوم القائم على التضحية وجسامة التضحية التي قام بها أعضائها ومنتسبيها، إلا أنَّ صمودها بهذه الحالة محدود وأنَّ ديمومتها مرهون بتغييرات جوهرية لصالحها في بنية العوامل الكابحة المذكورة أعلاه.

ومما لاشك فيه أن مجموعة عرين الأسود نثرت بذور وحدة العمل المقاوم العابر للفصائلية كنموذج، وغرست في أذهان القادمين من الأجيال درساً في الحرب الشعبية كوسيلة ناجعة والكفاح المسلح كأسلوب موجع للاستعمار الإسرائيلي وملحقاته.