منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وتداعياتها الدولية، لم يشهد العالم سرعة متغيرات وتنوع تحالفات اقليمية ودولية كما يحدث اليوم.
فمنذ نهاية الحرب الباردة وانهيار المعسكر الاشتراكي الشرقي فقد استقر النظام العالمي ذو الاحادية القطبية من خلال كل أشكال الهيمنة بقيادة الولايات المتحدة التي فرضت سياساتها ومواقفها على حلفاؤها وتحديدا على دول الاتحاد الأوروبي والتي باتت اليوم تعاني من هستيريا متصاعدة أمام ازمة النيوليبرالية الجديدة من جهة، وانعكاسات خروج بريطانيا من الاتحاد من جهة اخرى وتداعيات العقوبات الأمريكية الجائرة على روسيا.
إن واقع ومستقبل الاتحاد الأوروبي أصبح يتهدده أشكال من التباعد بين بعض دوله كالمانيا وفرنسا، كذلك التباين في مواقف عدد من دوله بشأن بعض القضايا الناشئة وتحديدا اليوم بما له علاقة من العقوبات المفروضة على روسيا والصراع الأطلسي الروسي. وقد انعكس هذا الأمر بشكل واضح في لقاء الدول الاوروبية الذي دعى له الرئيس الفرنسي ماكرون قبل اسابيع . وقد يكون انتهاء شكل هذا الاتحاد الأوروبي هو ما تسعى له الولايات المتحدة وروسيا في أن واحد لكن من منطلقات مصالح مختلفة الأبعاد.
لكن وبالرغم من ذلك فإن الاتحاد الأوروبي يمضي باتجاه الولايات المتحدة ويتبع نمط سياساتها الخارجية حول معظم قضايا العالم ومنها قضيتنا الفلسطينية. فلا يستطيع الاتحاد الأوروبي التخلي عن البقاء في فلك السياسات الأمريكية في ظل استمرار وجود حلف الناتو الذي تحدد سياساته الولايات المتحدة، وشعوبه تدفع ثمنا غاليا لذلك بما له علاقة بالطاقة والاوضاع الاقتصادية المنهارة وخروج المظاهرات الشعبية على أثر ذلك بالمدن الأوروبية.
وفي ظل هذه المتغيرات المتسارعة وتفاقم مظاهر الصراع الروسي الأطلسي الذي بات أكثر وضوحا منذ عام2014 بعد محاولة الولايات المتحدة السيطرة على أوكرانيا وتهديد مصالح الأمن القومي الروسي وإثارة الحرب ضدها بالوكالة وتوسيع حدود الناتو، فإن الولايات المتحدة باتت تشهد متغيرات أن كان في إطار تبديلات في استراتيجيات امنها القومي والذي أعلن عن مضمونه الجديد قبل شهر، أو بما تشهده من تداعيات عدم استقرار وفوضى اجتماعية واقتصادية قد تهدد استقرار ووحدة ولاياتها وانتشار مظاهر الفوضى المدنية حيث باتت جرائم القتل فيها شبه يومية، أو طبقا لاحداث الكابيتول أثناء الانتخابات الرئاسية.
يترافق ذلك مع حمى انتخابات الكونغرس الأمريكي التي ستجري بالنصف الأول من شهر نوفمبر القادم والتي قد تطيح بالاغلبية الحاكمة لحزب الرئيس الأمريكي بايدن " الديمقراطي" وفق استطلاعات الرأي الجارية والتي تشير إلى فوز الجمهورين من حزب الرئيس السابق ترامب بهذه الانتخابات النصفية، الأمر الذي أن تم سيعيق بايدن من استمرار تنفيذ سياساته، رغم اننا ندرك بأن استراتيجيات السياسة الأمريكية تحيكها الدولة العميقة ومنها المجمعات الاقتصادية والمالية البنكية والصناعات العسكرية. وهي استراتيجية قد تختلف بالأداء لكنها تخدم فكرة الهيمنة الأمريكية في قيادة النظام الدولي الذي أصبح يتهدده الانهيار نحو نظام دولي جديد اما ثنائي القطب أو متعدد الاقطاب بحكم الدور الروسي والصيني المتصاعد بالعالم والتجمعات الدولية الجديدة الناشئة حديثا ، التي أصبحت تدور بالفلك الروسي الصيني بحكم المتغيرات الجارية.
وبغض النظر عن فوز اي من الحزبين الامريكيين في انتخابات الكونغرس، فإن ذلك لا يعني شيئا من وجهة نظري تجاه حقوق شعبنا الفلسطيني الثابتة والمتمثلة اساسا بحق تقرير المصير لشعب يتعرض لظلم تاريخي منذ اكثر من سبعة عقود بانحياز كافة الإدارات الأمريكية إلى جانب دولة الاحتلال ومنهجها الاستعماري، من خلال استدامة إدارة الازمة فقط بما يؤهل لدولة الاحتلال الوقت لتنفيذ مشروعهم بتمدد الاستيطان والضم وتهويدالقدس والاغوار والخليل.
اما انتخابات كنيست "برلمان" دولة الاحتلال فستجري خلال الأيام القادمة للمرة الخانسة خلال ثلاث سنوات وهو أمر لا بد انه يعكس ازمة حكم بنيوية لدى نظام دولة الاحتلال التي تتنافس كافة احزابها الصهيونية الدينية والقومية على اراقة الدم الفلسطيني ومنع إقامة دولة فلسطينية متواصلة و ذات سيادة على حدود الرابع من حزيران، وعلى مدى إلحاق الاضطهاد بابناء شعبنا في غياب معسكر سلام إسرائيلي يهودي وتوجه معظم المجتمع لديهم نحو برامج صهيونية حاقدة تسعى إلى مشروعهم التلمودي المزعوم على كل ارض فلسطين التاريخية وترسيخ سياسات الابرتهايد والفوقية اليهودية والاستيطان الاستعماري إلى جانب تصعيد جرائم عسكرهم ومستوطنيهم.
حتى اللحظه يتساوى المعسكرين الصهيونين بنتائج الانتخابات المتوقعة وربما سيدي ذلك إلى تعثر التشكيل الحكومي، وليس هنالك أدنى مؤشر على رغبة أي من المعسكرين بمسار سياسي لمفاوضات جادة تقوم على اساس القرارات الدولية والقانون الدولي وتفضي إلى إنهاء الاحتلال ، خاصة وان استمرار الاحتلال الاستيطاني غير مكلف بالنسبة لهم نسبيا حتى الآن، بل ويشكل احد مصادر دخلهم القومي لانه يقوم على أساس إلحاق اقتصادي استعماري بالكامل. وهو امر يشجع استمراره نفاق الغرب وازدواجية معاييره وعدم قدرته على محاسبة وعقاب دولة الاحتلال تحت تاثير قوة ومال الحركة الصهيونية ان كان بالولايات المتحدة وبالتعاون مع منظمات مسيحية صهيونية مستحدثة وقوى المحافظين فيها أو النازيبن الجدد في أوروبا أيضا.
في خضم كل هذه التداخلات السياسية والاقتصادية غلى مستوى الإقليم وبما يخص الغرب والتحولات الجارية بالعالم وفق نتائج انتخابات جرت بالعديد من الدول ادت الى تقدم قوى اليسار بامريكيا اللاتينية وعدد من قوى اليمين المتطرف في دول اوروبية رغم تقدم اليسار في بعض منها والازمة القائمة في بريطانيا منذ فترة.
فان لنعقاد القمة العربية بالجزائر بعد يومين في محاولة للم الشمل العربي من وجهة نظر سياسية مثالية لا تتفق مع الواقعية السياسية التي بات العالم العربي يعيشها بتباين واختلاف المواقف والمصالح أو من خلال خلافات بينية تفاقمت بشكل كبير إلى حد الحروب بين بعضها بعد تنفيذ الولايات المتحدة ما سُمي زورا بالربيع العربي ونتائجه التي ما زلنا نعيشها حتى اليوم، والتي ادت الى اضعاف مفهوم الدولة الوطنية بعالمنا العربي، وبقضيتنا الفلسطينية إلى تراجع أولويات الاهتمام بها، ومحاولات أمريكيا ضمن استراتيجيتها دمج دولة الاحتلال بالمنطقة العربية من خلال دورها العسكري والاقتصادي أن كان باتفاقيات التطبيع أو اتفاقيات الغاز والطاقة وتمرير خطة السلام الاقتصادي والامني دون الحقوق السياسية انطلاقا من رؤية ترامب التي تطبقها إسرائيل على واقع الحال وما حاوله بايدن في لقاء الرياض قبل شهر وفشل به.
وحيث اننا جزء لا يتجزأ من الصراع الدائر في اية بقعة من العالم ونحن في فلسطين جزء من هذا العالم والصراع مع الاحتلال هو أيضا جزء من الصراع الدائر في العالم وبالتالي فان الساحة الفلسطينية ستتاثر بكل ما يجري في هذا الكوكب من متغيرات التي ستنعكس علينا دون أدنى شك.
هي فرصة الآن أمام العرب بأن يخلعوا ثوب الخوف الذي البسه الاستعمار لهم واستاثرت به أمريكيا لاحقا لإحتواء الدول العربية وإسرائيل على حد سواء بالترهيب والمصالح المشتركة لخدمة أهدافها ورؤيتها اساسا.
على العرب الآن وبأقل الايمان الخروج من سياسة الاحتواء الامريكي لهم بالاستفادة من ازمات الولايات المتحدة وهستيريا الخوف بالغرب من تفاقم الحرب الدائرة وعدم استقراره، وتوسيع آفاق علاقاتهم مع الشرق دون السقوط في شرك وهم العدو الجديد لهم بدلا عن إسرائيل، واتباع سياسات اقتصادية مستقلة استنادا إلى الثروات الموجودة وخاصة أمر الغاز والبترول والسياحة، وإشاعة حياة سياسية ديمقراطية بالمجتمعات العربية حفاظا على الدور الوطني للدول ووحدة اراضيها، واعادة تقيم العلاقة مع الولايات المتحدة على أساس خدمة المصالح العربية الوطنية اولا، ما يؤهل إلى إعادة ترتيب الأولويات العربية وخاصة بما يتعلق بقضية إنهاء الاحتلال والعلاقة مع اسرائيل بل ولضرورة العودة الى مقاطعتها وعزلها كنظام ابرتهايد وكدولة مارقة خارجة عن القانون الدولي بعد ان اغلق نظام الاحتلال فيها بل وأنهى كل اشكال الاتفاقيات في رفضه لاي فرصة متبقية لمسيرة سلام كان يفترض وجودها سابقا.
إلى ذلك ضرورة توحيد الجهد العربي المشترك أمام هيئة الأمم وباقي التكلات الدولية سندا إلى قرارات هيئة الأمم نفسها وقرارات القمم العربية والمطالبة الفورية بتوفير الحماية الدولية لشعبنا الفلسطيني والتمسك بمبداء القرار181 الأممي في إقامة الدولة الفلسطينية على كامل حدود ما قبل حزيران67 بما فيها القدس العاصمة المحتلة وحل قضية اللاجئين وفق القرار194، والضغط من خلال المصالح المشتركة مع الدول لاستكمال ضمان العضوية الكاملة لدولة فلسطين بالامم المتحدة.
إن العالم مقبل على متغيرات اساسية تجري بداياتها الآن، وعلينا إدراك سياسات السراب الأمريكي ونفاقها المتداعية الآن، والاهتمام في هذه المرحلة الانتقالية من النظام العالمي الذي نامل بحلوله ان يسود جوهره العدالة والسلم العالمي والحريات، بقضايانا الداخلية في توطيد صمودنا الرسمي والشعبي من خلال كافة الآليات الوطنية والديمقراطية اللازمة وتنفيذ قرارات المجلس المركزي لمنظمة التحرير المتعلقة بتحديد العلاقة مع الاحتلال، كما وضرورة تصعيد المقاومة الشعبية على الارض والسياسية بالمحافل الدولية المختلفة بما فيها محكمة الجرائم الدولية في فضح ومواجهة سياسات وجرائم الاحتلال ومواقف الدول التي تساندها ايضا، وتطوير كل أشكال العلاقة والتضامن المتبادل مع شعوب العالم وقواها التقدمية التي تقف الى جانب حقوق شعبنا الثابتة ومبادئ حق تقرير المصير والحرية لنا كشعب يناضل من أجل استكمال مرحلة التحرر الوطني لدحر الاحتلال استيطاني البشع.