الزلزال الذي وصفنا به هذه الانتخابات الإسرائيلية وقع فعلاً.
السؤال، الآن، هو: هل سنكون أمام «مجرّد» هزّات ارتدادية، أم سنكون أمام تسونامي مُدمِّر؟
ما الذي نتج جوهرياً عن هذه الانتخابات؟ حتى ولو أن النتائج ما زالت في بعض جوانبها ــ الثانوية ــ قابلة للتغيير قليلاً، صعوداً أو هبوطاً:
أولاً، تأكد بالملموس والمحسوس أن التيار القومي والديني الجارف أصبح الحاضنة والدفيئة الملائمة لتحكُّم ــ وليس مجرّد حُكم ــ الفاشية الجديدة في دولة الاحتلال، ولم تعد هذه المسألة مسألة توقُّع أو تخمين.
وسيؤرَّخ لهذه الانتخابات بأنها الانقلاب «اليميني» الكبير بعد انقلاب انتخابات العام 1977 بقيادة مناحيم بيغن.
كان «اليمين» آنذاك ما زال مختلطاً بين «يمين أيديولوجي»، و»يمين ليبرالي»، وحتى «يمين وسط»، ولم تكن الظاهرة العنصرية والفاشية سوى في بداياتها الأولى.
منذ النجاح الأول لنتنياهو، بدأ مسار إلى الفاشية والعنصرية، وقام الرجل بإقصاء كل من وقف في طريقه، من الأُمراء وحتى الوزراء، وها هو يعود إلى الحكم مجتازاً من العقبات ما كان يبدو أنه من المستحيل اجتيازها.
وخلال ثلاثة عقود، أشرف نتنياهو على عملية منظّمة من التحوّل والتحويل نحو العنصرية السافرة والفاشية الفاضحة، ومكّن القوى الفاشية تدريجياً من الإمساك بتلابيب الدولة والمجتمع في إسرائيل بما فيها وسائل الإعلام، واضعاً قوى المعارضة ــ من اليسار والوسط ــ في زاوية حرجة باختيار: إما التلاشي أو التماهي مع أيديولوجية وبرنامج «اليمين القومي والديني» فيها.
ثانياً، يعرف نتنياهو أن حُكم هذا التيار سيواجه في المرحلة الأولى على الأقلّ بمعارضات داخلية ودولية، وربما إقليمية، أيضاً، وأن عليه أن «يُفرغ» هذه المعارضات من مضمونها، وهو لذلك لن يخرج بخطابٍ متشدد، أو شديد التطرُّف والعنصرية، حتى يتجاوز «العاصفة الأولى» لكي يرسم الفاشية الجديدة، ويشرعنها، ويمكّنها من السيطرة على مفاصل دولة الاحتلال، بعد أن يكون قد أمّن نفسه من أي ملاحقات قضائية.
أي أنه سيناور بقدر ما هو مطلوب، لكي يتلاعب فيما بعد بالصبية الجُدد، ولكي يكمل إخضاع «الجميع» تحت قيادته المباشرة.
ثالثاً، مع الحالة الجديدة، والمرحلة الجديدة في إسرائيل يكون «الحل السياسي» قد ذهب مع ريح هذا الزلزال، ولن «يعود» إلّا بسقوط كامل البرنامج ونهج هذا التيار، وبعد إعادة تجنيد الحالة الوطنية الفلسطينية في كل أماكن تواجد الشعب الفلسطيني لكلّ قواها ومواردها وبالتنسيق الفاعل مع المحيط الإقليمي والدولي على كل المستويات.
أقصد كل البرامج حول «حل الدولتين»، أو «الدولة الواحدة»، أو «الثنائية القومية»، أو «صيغة المؤتمر الدولي»، أو «الحماية الدولية» كلها دون استثناء تتحوّل إلى برامج اعتراضية، أكثر منها أهدافاً، ويتحول العمل عليها من الحقل السياسي المباشر إلى الحقل الإعلامي، لتوليف الاشتباك الإيجابي الفعّال مع المجتمع الدولي ومؤسساته ومنظماته، وكذلك مع دول الإقليم ومنظماتها ومؤسساتها، باعتبار ذلك ضرورةً سياسية وليس برنامجاً سياسياً للحركة الوطنية الفلسطينية.
نحن أمام وقائع جديدة، ومرحلة جديدة باتت تُحتّم مغادرة كامل ميدان «الحل السياسي» بكافة المفاهيم التي ظلّت في موضع المراهنة السياسية على مدى أكثر من ثلاثة عقودٍ كاملة.
وهذه المرحلة بكل المعاني، وبما هي عليه من واقع جديد ستفرض على كل الحركة الوطنية ضرورة مجابهة الفاشية ببرامج جديدة، وأدوات جديدة، وأشكال جديدة، وهي فرصة تاريخية للقطع مع الماضي المتردّد كلّه.
وفي ضوء أن السمة الأساسية لهذه المرحلة وهذا الواقع الجديد هو صعود الفاشية واعتلاؤها لسدّة الحكم في دولة الاحتلال، فإن إسقاط نظام الحكم القائم والخاضع لهذه الفاشية يصبح البرنامج الحقيقي الوحيد القادر على تلبية حقوق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير على أرض هذا الشعب، وتتحوّل عملية مناهضة نظام «الأبارتهايد» على طريق إسقاطه لتصبح المهمة المركزية لنضال الشعب الفلسطيني في كل تجمعات الشعب الفلسطيني، بحيث يتم «موضوعياً» تحول هذا البرنامج إلى إجماعٍ وطني جديد، لأنه الإجماع الذي يُؤمّن لشعبنا وحدته من ناحية، والتفافه حول هذا البرنامج، ويُؤمّن عند تحقيقه ترسيخ حق تقرير المصير بالشكل الملائم للظروف الملموسة التي ستنشأ عن سقوط النظام الفاشي.
الجديد هنا، أيضاً، هو أننا كنّا أمام إسقاط قوى ومنظمات فاشية بعينها لنصبح أمام إسقاط نظام تحكمه هذه القوى.
رابعاً، هذا البرنامج الجديد للإجماع الوطني الفلسطيني الجديد لا يلغي، ولا يجوز أن يلغي العمل السياسي والدبلوماسي على الساحتين الإقليمية والدولية، إن لم يكن العكس هو الصحيح، لكن البرنامج النضالي للشعب الفلسطيني سيضع هذا النوع من العمل في سياقه الصحيح القادر على خدمة البرنامج النضالي وليس العكس.
خامساً، لن تتمكن منظمة التحرير الفلسطينية من أن تعود لقيادة الشعب الفلسطيني دون أن يتم إحداث ثورة حقيقية في واقعها من زاوية الفعالية والديمقراطية وضمّها واحتوائها لكل القوى دون استثناء، ودون إعادة الاعتبار لها كقائدة للتحرّر الوطني، ودون أن تقلع وإلى غير رجعة عن إخلاء دورها لسلطات هنا وهناك لن تعمّر طويلاً بعد اليوم، إلّا بشروطٍ إسرائيلية، وقيودٍ ستنهي دورها، وتحوّله إلى «هيئة عربية جديدة»، بعد أن تتحوّل «السلطات» إلى «وكيل سياسي» للاحتلال بدلاً من «الوكيل الأمني»، وبعد أن يتم «رفد» هذه السلطات بالقوى الاجتماعية التي تتحيّن الفرصة لهذا الدور.
وفي هذه الحالة فإن مشروع «الولايات السبع» سيُدرج بصورة مباشرة على جدول أعمال الحل الإسرائيلي للصراع.
سادساً، برنامج الإجماع الوطني الجديد، هو الذي سيحوّل اختلاف ظروف الساحات الفلسطينية من دائرة الافتراق والتعارض بسبب ما أفرزته اتفاقيات أوسلو من «وقائع» على هذا الصعيد إلى دائرة التكامل والتناغم بين هذه الساحات، لأن الكلّ الفلسطيني ودون استثناء له مصلحة وطنية، مباشرة وأصيلة في هذا الإجماع، وبدلاً من دعم وإسناد الساحات لبعضها البعض في بعض الفترات والأحداث سيتحوّل الأمر إلى مرحلة أعلى، وهي وحدة البرنامج واختلاف أشكال الكفاح إذا لزم الأمر. والفارق هنا كبير ونوعي، ولا مجال للمقارنة بشأنه.
سابعاً، المرحلة الجديدة باتت تتطلّب من أهلنا في الداخل الفلسطيني فتح الحوار على مصراعيه بهدف الاتفاق والتوافق، والأولوية المطلقة، الآن، هي لإعادة بناء الذات الوطنية، لأنهم ــ أي الأهل في الداخل ــ سيكونون رأس الحربة في هذا البرنامج، ولأن «الشكل البرلماني» بات بحاجةٍ إلى مناقشات وطنية معمّقة وجادّة.
وقد أثبتت الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة أن توافق ووحدة الحركة الوطنية سيؤديان إلى مزيدٍ من التفاف الناس حول الحركة الوطنية هناك.
كما أن الحركة الوطنية في «الداخل» أصبحت المسؤول الأول والمباشر عن الشكل الأنسب الذي تراه للعمل مع القوى اليهودية الإسرائيلية التي يمكن أن تصطفّ مع، وإلى جانب برنامج إسقاط نظام العنصرية والفاشية في دولة الاحتلال.
سقط القناع عن القناع، ولم يعد في الساحة من أقنعة جديدة.
وكل من سيناور بعد اليوم للبحث عن قناعٍ جديد سيسقط حتماً، بصرف النظر عن الحُجج والمبرّرات والذرائع التي سيُسوّقها للالتفاف على البرامج الكفاحية للشعب الفلسطيني في مواجهة الأخطار الجديدة والكبيرة.
هذه فرصة نادرة لمغادرة ساحة المناورات والانخراط في المعركة مباشرةً.